بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
إلى روح والدي الشهيد المجاهد المجتهد، نبراس العدل والرحمة وعنوان الإخلاص لربه وشعبه وأمته زاهد العصر إمام المسلمين، أمير المؤمنين باني نهضة اليمن الحديث حرا مستقلا.
وإلى روح والدتي الطاهرة العفيفة، من كرست حياتها لتربيتي . من نسيت مباهج الحياة، وعاشت لي وحدي، من جعلت ينبوع سعادتها في رعايتي.
وإلى أرواح أخواني الشهداء، من جاهدوا بنفوسهم في سبيل رضا ربهم، ودفاعا عن وطنهم وأمتهم.
وإلى أرواح الشهداء من العلماء والفقهاء والأعيان والآخرين من أبناء وطني
إلى كل هؤلاء الأحياء عند ربهم، في جنات النعيم.
ذكرياتي ، تذكرة وعبرة واهداء".
المقدمة
الحمد لله الذي لا منتهى لعطاياه ومنحه حمدا يقوم بالواجب من شكره ومدحه والصلاة والسلام على أشرف نبي وعلى آله الطاهرين وأصحابه الغر الميامين.
هذه ذكريات وليست مذكرات لا تسجل للأحداث باليوم والشهر والسنة ولا تفصل وتحلل وتستنتج وإنما هي نفثات ألبست بجناني من القول القائد إلى الصبر خضعت لكثير من أحكام الدهر وأقضيته فقد ذهبت الأيام وما عاد ينفع الملام ، تعاقب الزمان وتغاير الحدثان ولكنها لا يلحقها الريب ولا يحيط بها الشك. أحداث عشتها ساعة بساعة ورأيتها تجري أمامي فصولها كتبت بدم الشهداء الأبرار من أبناء أسرتي والصابرين المصابرين من أبناء وطني والكلام يزدحم في فمي فاستلهمت صواب القول حتى يجعل الله لي من عسر يسرا.
هي ذكريات مسطورة حدثت بها بيني وبين نفسي وكلما فجرها صدع فؤادي الكليم وصعدت من صدري مع زفراته أبكتني وأفرحتني وكأني أرى الحياة مواطن البؤس والشقاء ومستقر الآلام والأحزان وكنت بحاجة إلى قطرات الدمع أتفرج بها مما أنا فيه. ذكريات جرت أحداثها في وطني اليمن رسمت خطوطها خارج وطني ورسمها العابثون بتراث بني وطني الذين أوغلوا في نزواتهم التآمرية وعتوا عتوا كبيرا. اغتالوا إمام العصر الشهيد الإمام يحيى بن محمد حميد الدين والدي وغدروا بأخواني ونفذوا إلى القربى من آل البيت الكرام الطاهرين فألحقوا الخراب والدمار والعسف والظلم والاستبداد بأبناء وطني. إني لا أبدل نفسي نفسا غيرها بل أروي ما حدث ولا أحدث بما روي ، أذكر تاريخ أمة في رجل وحال وطن عصفت به رياح السموم العاتية وكانت مؤلمة صارخة قاسية ، فيها من الهموم والأحزان ومواطن الشقاء ما تنوء بحمله جبال اليمن ، ولكني وطنت نفسي على المصائب وشجعت جلدي على لقاء النوائب وبكيت مع الباكين والباكون أصدق الناس حديثا عن مصائبهم ونوائبهم.
هل يمكن لعاقل في هذه الدنيا أن يتصور أن زوجا يتآمر لقتل والد زوجته ثم يعود ليبث لواعج إخلاصه لزوجته ووالدها ويذرف الدمع مدرارا على فقد ضحيته؟ كلها وقائع حقيقية عشت في أتونها واكتويت بنيران حسراتها.
وأعايش اغتيال سبعة من أخواني وعشرات من أبناء وطني علماء وفقهاء ومشايخ وأعيان أخلصوا لربهم ودينهم ووطنهم. في قافلة عمري تحملت وشقيت شقاوة غرائب الإبل ولقيت اليد التي تصون الدموع وعرفت اليد التي تريق الدماء ، أبصرت غدر بعض بني الآل ورأيت الوفاء والشهامة والرجولة عند الكثيرين من أبناء وطني الذين شدوا أزري وتحدوا التهديدات وسخروا من التلويح بالعقوبات ، فكانوا نعم الأهل والأبناء . تلكم كانت ذكرياتي التي سعدت فيها برهة من الدهر ومر بي فيها أحسن ما مر وأمر ما كان من ظلم الزمان وعلقميته.
أين مني الخنساء خيانة وغدر وسجن وإرهاب واضطهاد ، إن ذا لكثير وما علي إلا التجمل بزمام الصبر والعنقاء تنهض من بين أكوام الرماد.
كل حرف أوردته في ذكرياتي هو الحقيقة بعينها إنها شهادتي أمام الله حيث لا ينفع مال ولا بنون وإنما أرويها تذكرة وعبرة.
وصدق رب العالمين إذ يقول:
" لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية" سورة الحاقة، آية : 12
وحسبي الله و نعم الوكيل.
يُمّاه يُمّاه ..!! لن أنسى تلك الصرخات التي زفرت من أعماقي ولن أمحو تلك الحيرة التي ما لها من نفاذ حين تعلقت بالملاءة المسبلة على ذاك الجسد الممدد.. عينان محدقتان ببرود عبر الألم وحياة انطفأت ببطء ووهن. أتشبث بأهداب الملاءة وأولول والأمهات والأخوات يحاولن منعي فألقيت بنفسي على الأرض نائحة بكلمات حزينة محزنة يا يماه هل تركتني وحيدة؟.
أبكيت كل الحاضرات أرى دموع الحرقة والعطف والشفقة وكأنها جداول تضج ، ولامس بكائي وحزني شغاف قلب أبي يرحمه الله ، فأرسل في طلبي ووالدتي آنذاك في سريرها قد ودعت الدنيا. حملتني الطبيبة الروسية التي كانت تتولى علاج أمي وصعدت بي إلى حجرة والدي الإمام العليا بدار السعادة. دخلت باكية ورميت نفسي بين أحضان أبي فضمني إلى صدره ضمة ما كان أحوجني إليها ومسح بيديه على رأسي وشعري ، وأمضى يرحمه الله وقتاً وهو يواسيني ويلاطفني ويؤنس وحشة احتضار أمي ، حتى إذا ما هدأت نفسي أنزلتني الطبيبة الروسية إلى الغرفة المسجى فيها جثمان والدتي ، فإذا بأخواتي وأخواني حولها يقرأون من القرآن الكريم ، وكل من حول الجثمان خاشع لذكر الله ، فلا بكاء ولا عويل وكان آخر ما سمعته. {يا أيتها الفنس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}.
قبيل الفراق الأخير كنت مع مؤمنة الخادمة تلك التي كانت يهودية واعتنقت الإسلام بهداية أمنا حورية زوجة والدي ، ومعنا زوجة أخي إبراهيم في حديقة دار السعادة. وبينما أنا أصعد شجرة وأنزل عن أخرى ، وأتدلى على فرع هنا وهناك تحرسني زوجة أخي وتلاعبني مؤمنة فإذا بصورة أمي تهز كياني ، أيقظني صراخ والدتي من لهوي ، وارتسمت أمام نظري والدتي وهي تضرب بقدميها الأرض بشدة ، وتمسك برأسها بقوة ، وتدعو الله أن يخفف عنها آلامها ، فتركت الحديقة وطرت مسرعة إليها ، وصعدت السلالم مذعورة إلى غرفتها. ولشدة ما رأيت: كثيرات متجمعات حولها ما بين باكية وقارئة القرآن ، الحزن قد أرخى أذياله عليهن جميعا. أمضيت ليلتي تلك الأخيرة إلى جانب والدتي وفي الصباح كان جنازاً عظيماً لوالدتي, قيل: كانت جنازة والدتي أكبر وأحفل جنازة خرجت من دار السعادة تقدم الجميع الوالد الإمام يرحمه الله تعالى وشارك الأخوان وصلى عليها الجمع بإمامة الوالد ، ووريت والدتي الثرى محزوناً عليها. سلام على الدرب الذي كان من بيت في دار السعادة إلى بيت في دار الخلود. والدتي يرحمها الله كانت نغماً في حياتي لم يكتمل ، وقصة لم تكتب ، يُمّاه غادرتنا والطريق طويل. كنت إذ تلك في السابعة من عمري.
مما حفر في عقلي وقلبي من آلامها ومر شكواها؛ وأنا بين يديها تمشط شعري وتزينني ، ربتت بيدها على صدري وظهري ومسحت بيدها الأخرى على رأسي وضمتني وقبلتني قبلة كلها دفء وحنان لا أزال أحسه قالت لزوج أخي القاسم: لولا ابنتي هذه ما عدت إلى هذه الدار بعد أن خرجت منها مطلقة وببراءة الطفولة كنت أنظر إلى وجهها فإذا دمعة مرسلة من أعماق عيونها. نظرات أمي كانت نوافذ روحي ، إنها جرس يقرع داخلي فكانت سبيلي لاستقصاء سيرة حياة أمي في سنواتها السبع قبل أن تسافر مع سحب الغمام. والدتي ابنة السيد علي بن محمد غمضان الكبسي العالم الورع قالوا لي : أن والدتي كانت ذات دين وعقل وملاحة وجمال من أسرة كريمة اكتمل حسنها ووافر أخلاقها ومتانة دينها في عز صباها ونضرة شبابها ، خطبها والدي الإمام يرحمه الله فأقيمت الأفراح حيث نحرت الذبائح وعزفت الموسيقى ، وبنى بها وسكنت والدتي في حي شرارة بصنعاء في بيت مطر ، وهو منزل صغير أثاثه بسيط وفيه أنجبت والدتي أختي الأولى والتي توفيت في عامها الأول ثم أنجبت أختي الثانية ولحقت الأخرى بالرفيق الأعلى وحملت والدتي بي ، وفي شهور حملها الأخيرة رأت فيما يراه النائم أن هاتفا يقول لها :" لو خرجت من صنعاء فسوف يعيش الذي في جوفك فسافري". فلما حكت لوالدي ما رأته في المنام كان جوابه: أضغاث أحلام.
وأمام إصرارها وعلو مكانتها وحظوتها عنده سمح لها والدي الإمام بالسفر إلى مدينة السودة شمال غرب عمران ، وبرفقة عمها إسماعيل غمضان وكنت أناديه بخالي ومعها قابلة القصر الأم هدية الشرقية وخادمة والدتي.
ولدت وسماني والدي تقية كان ذاك سنة 1341 ه \ 1922م ولم يطل بنا الاستقرار في مدينة السودة حتى طلبنا الإمام إلى صنعاء والى دار السعادة بعد ترميمها ، كانت دار السعادة فيما سبق مشفى للأتراك ، أصلحت وأضيف إليها بعض المباني جمع فيها الإمام كل الأسرة من أخوان وأخوات وأمهات وكن ثلاثة وزوجات أخواني ، لكل زوجة غرفة واحدة ولكل ولد غرفة ، ومن يتزوج ينفرد بسكن مستقل ، وكان لوالدتي غرفتها الخاصة وكان لأبي غرفته الخاصة في الطابق العلوي من دار السعادة ، ولما كان والدي ملتزما بالمساواة الشرعية في المعاملة فإن لكل زوجة نوبتها تصعد إليه ، وهكذا دواليك ومع أن زوجات والدتي كن ودودات كأنهن الأخوات لكن أنى لأهواء الطبيعة البشرية أن ترقى ، فالضرائر تضنيهن الغيرة ويشقيهن ألا تنفرد كل واحدة منهن بقلب زوجها ، تتجاذبهن الأنوثة التي تعرف رقتها وضعفها ورهافة وجدانها ، وبخطة محكمة نفذت إحداهن أو إحدى الخادمات ما كان: كانت ليلتها نوبة والدتي ، وللمصادفة كان والدي الإمام يرحمه الله متعبا فصعدت إليه بعد العشاء كالعادة فوجدت باب حجرته موصدا ، وعند الباب حذاء حريمي فعادت نازلة تأدبا ، وعاودت الكرة مرارا وعلى مضض ، وإذا بالحذاء مكانه ، فتعود وترقب ذلك بكثير من القلق والغيظ ، بينما والدي يتلوى من شدة المعاناة ويتأفف استغرابا لتأخرها. ووقع فعلها من الإمام موقعا أليما ، وهكذا كانت المحنة واشتد الخلاف وكبر وصارت الجفوة مما حدا بوالدتي أن تذهب إلى بيت أهلها إلى بيت خالي إسماعيل ، وكان لذلك أثر عظيم على والدتي وخالي. انتقلت والدتي إلى بيت خالي وكان خالي كريما سمحا جهز لنا جناحا خاصا وأثثه بكل ما يلزمنا ، وحتى المربية والخادمة ولما كنت الصغيرة فإني أنا المحفوفة بالرعاية والحب من الجميع الخال والبنات والامهات والأخوة والأخوات ، وأما والدي فكان يرسل في كل جمعة العربة التي يجرها حصانان فأذهب إلى دار السعادة ومعي مربيتي فإذا ما رآني والدي رحب بي هش وبش وقبلني وضمني إلى حضنه. وكنت أشعر بالراحة والسعادة على صدر والدي يداعبني ويلاعبني ، يسألني عن الوالدة والخال ويغمرني بما لذ وطاب من الحلوى والهدايا ، ومن ثم أطوف مع الأخوات نلعب ونلهو في الحديقة والباحات وما رآني أخ من أخوتي إلا أقبل علي يحوطني بحنانه ورعايته ، وكان والدي حريصا كل الحرص أن أعود قبيل المساء إلى البيت لعند أمي ولا أتأخر حتى لا تفزع أمي لأي سبب من الاسباب. وسارت حالتي ووالدتي على هذا المنوال وحين بلغت الخامسة من عمري حدث تغيير على سطح دار خالي رأيت عمالا ينصبون خيمة كبيرة ، فرشت أرضيتها بالسجاد وجاءوا بلوحة وطباشير ، ونادتني أمي فرحة مسرورة يرافقها خالي العظيم إسماعيل قالت والدتي: غدا ستبدأين الدراسة يا تقية وسيكون هذا عامك الدراسي الأول.لم تكن الغرفة الدراسة خاصة بي فقد زاملني في مدرسة السطوح كما كان يحلو لنا أن نسميها بنات الوالد حسين عبد القادر وبنات العم شريف عبد القادر وكانت مدرستنا الأولى المرحومة لطيفة بنت شوشة. وكان درسنا الأول في القراءة والكتابة حروف الهجاء ونطقها وقراءة سور قصيرة من القرآن الكريم نرددها بعد تلاوة مدرستنا ذات الصوت الجميل الرخيم. مدرستنا كانت طيبة تعاملنا بلطف تمضي وقتا طويلا في تعليمنا وتهتم بمراقبة كتابة كل واحدة منا ، وأما دروسنا فكانت دروس في الصباح وأخرى في المساء فالدراسة على فترتين تماما كما في المدارس الحكومية الأخرى التي كان يوليها والدي كل الاهتمام . لا زلت اكتنز من الذكريات الجميلة عن مدرستي الأولى وزميلاتي الأول وخاصة عندما نلعب نط الحبل أو الغماية. وقد غمرتنا السعادة وفرحنا وهللنا عندما رأينا خالي العزيز وهو يشرف بنفسه على تركيب ارجوحة لنا في حوش داره ومكافأة لنا على حسن تقدمنا في الدراسة ولانشراح صدره من التقارير اليومية التي تقدمها إليه مدرستنا وجدنا واجتهادنا وتبادلنا التمرجح بالدور وقت راحتنا بين الدروس وكنت ألعب الارجوحة بمهارة فائقة ، أرتفع وأعلو قاعدة وواقفة مما كان يثير إعجاب زميلاتي ومدرستي وحتى أسرة خالي وعلى الأخص والدتي الحنونة. كان والدي يرحمه الله بعد أن عرف قصة الحذاء الحريمي وكيد صواحب يوسف قد كتب رسالة إلى والدتي بعث بها مع عسكري يطلب إليها العودة ، وتجاوز ما حصل ولكن الوالدة لا ترضى وظلت على كبريائها. وذات يوم وصل رسول من قبل الوالد الإمام أبلغ خالي بأن الإمام زعلان ، لأن تقية تلعب في الطريق العام خارج المنزل وأنني وزميلاتي نتقاذف الحجارة مع الأخريات ولا أدري إن كانت وشاية من أحد الذين اعتادوا ريادة مقيل خالي أو أن والدي أراد به تجريب طريقة أخرى لإقناع والدتي بالعودة والمراجعة, فقد اقترح والدي عودتنا إلى دار السعادة ولكن والدتي ظلت على امتناعها لكونها مطلقة وانتقلنا إلى بيت معيض ووالدتي وأنا والخادمة والمربية والخال هو المشرف علينا وتدبير شؤونا.
ولم يمض علينا في بيت معيض قرابة العام إلا وعاود الوالد الإمام الإلحاح على والدتي بالانتقال إلى دار السعادة وان هذا اختيار وترحيب من جميع الأسرة وعدنا إلى دار السعادة وكان الترحيب حارا من كل افراد الأسرة رجالا ونساءً صغارا وكبارا ، الضرائر أولهن ، وللحقيقة فان والدتي كانت مرتاحة. أذكر أن والدي الإمام قال لي: لقد طلبت لك يا تقية أحسن مدرسة درست عند أبيها العلامة الفاضل عبد الله الخياري وغدا ستكون عندك. وفعلا وصلت وبدأت الدراسة في غرفة مجاورة لغرفتنا وكان يدرس معي اثنان من أخواتي ومن زوجات أخوتي. كانت أستاذتنا فاضلة متقنة لقراءة القرآن الكريم وتعليمه ذات صوت حسن وقدرة عجيبة على تبسيط تفسير الآيات ، وتروي لنا القصص بأسلوب مشوق وتحكي لنا الحكايات المسلية. أما مربيتي فاطمة من بيت الشمسي فكانت تشرف على آداب سلوكي ، وكيفية حسن حديثي بكل تهذيب وكياسة واحترام ، وتنظر في لباسي وطعامي وآدابه وحتى نظافتي . وكانت مربيتي واحدة من أفراد أسرتي الكبيرة وحين تزوجت من السيد أحمد بن حمود الشمسي المؤذن الخاص بالمقام في دار السعادة شعرت بغيابها فعلا ، ولكنهم عوضوني عنها بالأم فازعة فكانت لا تقل عنها طيبة وإخلاصا. في إجازتي المدرسية يومي الخميس والجمعة كانت بعض بنات الأتراك يأتين لزيارتنا ممن فضلوا البقاء في اليمن ورحب بهم الإمام ليعملوا كخبراء في الدولة اليمنية المستقلة ذات السيادة ومنهن بنات القمندار إسماعيل سميحة ومليحة ، وبنات القاضي محمد راغب وهيبة وعزيزة وشاءت الأقدار أن تصبح عزيزة زوجة لأخي قاسم ، وبنات خورشيد بهية وسنية كنا نمضي وقتا طيبا ممتعا نلعب نطة الحبل أو نسبح في مسبحنا وشعرت والدتي بحبي للسباحة وأني لا أجيدها ، ولما كدت في احدى المرات أغرق استدعت والدتي مؤمنة وكانت تتقن السباحة وتمنت عليها أن تعلمني السباحة خلال أسبوع ولها خاتم ذهب هدية ، وبالفعل فقد أتقنت السباحة خلال المدة وكنت أشعر بسعادة غامرة ووالدتي تنظر الي بفرح وأنا أعوم وأسبح. ومؤمنة هذه يمنية هداها الله إلى الإسلام وتركت الديانة إليهودية وكانت تأتي إلى دار السعادة مع غيرها من اليمنيات اليهوديات للخدمة والتنظيف ، وزوجة الوالد حورية المتوكل كانت المرجع للجميع تقية ورعة داعية للاسلام ودائما تستقبل النساء من أهل الذمة وتعامهلن معاملة طيبة ، فاعتنقت بعضهن الاسلام ومنهن مؤمنة وميمونة وحميدة ، كما علمت الوالدة حورية العديد من الحبشيات العتيقات قراءة القرآن ، ثم الطبخ والخياطة ثم يتزوجن إذا سهل الله لهن ، وقد تزوجت واحدة منهن الأمير صمصام توفيق بن عبد الله وكان عبدا اشتراه الإمام وأعتقه ، ودرس القرآن والفقه والعقائد بتشجيع من الإمام وبرزت مواهبه الأدبية وشجاعته وقاد بعض المعارك الحربية في المخا ، فعينه الإمام عاملا عليها ، ثم شارك في حروب اليمن الأسفل ، وبرع في التدريب على المعدات الحربية التي وصلت من إيطاليا فعينه مديرا للورشة. ولما كانت تجارة الرقيق آنذاك رائجة ولها تجارها وكان الإمام يشتري العديد من العبيد رجالا ونساءً بقصد الإعتاق بعد تأهيلهم لمواجهة الحياة والمجتمع ، ومثله كان يفعل أخي البدر الشهيد ، فقد اشترى الكثير من الرقيق وأعتقهم بل وملّكهم الأرض لضمان عيشهم بعد العتق. الوالدة حورية كانت تؤمنا في المصلى الخاص بالنساء ، أما الرجال فيؤمهم الوالد ومؤذن دار السعادة العم حمود الشمسي صاحب الصوت الحسن في الأذان وتسابيح الليل ، وقد خصصت للأذان دكة مرتفعة في حديقة دار السعادة. ولن أنسى مدى عناية والدي بوالدتي عندما مرضت فقد ألزم العمة محصنة خالة أخي القاسم بالبقاء عند رأس والدتي لتخدمها وتحاول تخفيف آلامها، وألزم أخواتي أيضا بعدم مفارقة والدتي. وأمر أخواني البدر الشهيد وعبد الله بمواصلة الاتصال اليومي بالأطباء لمعاينة الوالدة ، وأخي علي يرحمه الله يأتي في كل يوم من منزله لزيارة والدتي ، حتى كان ما كان ووقع الرحيل الأبدي. أما أنا فقد دأبت على قراءة القرآن حتى ختمت القرآن وأبلغ والدي بختمي للقرآن وكان فرحا جذلا بعد أن امتحنني في القراءة وكافأني بإقامة حفل خاص لي بمناسبة ختم القرآن الكريم ، وكان حفلا كبيرا دعوت له صديقاتي وزميلاتي في مدرسة السطوح وارتدت الزميلات والصديقات أجمل ملابسهن أما أنا فألبستني خالتي باكزة والدة أختي عزيزة زوجة أخي القاسم الثياب البيضاء الجميلة ، وسار موكبنا الحمائمي في جولة في حديقة دار السعادة وهن ينشدن الأناشيد الدينية وأنا في وسطهن مفتخرة معتزة ، وقدمت لي الهدايا وما ألطفها ، ثم مدت لنا مائدة طعام خاصة زينتها أنواع المأكولات من الحلويات وغيرها ، وكانت فرحتي عظيمة لا توصف. إن ختمي للقرآن الكريم أدخل الفرح والسرور على قلب والدي ، وزاد اهتمامه بي وفي حديث رقيق مع الوالد ألزمني بمطالعة الكتب الأخرى ، وطلب من زوجة أخي القاسم رعاها الله أن تعلمني وكانت بارعة في الخياطة وماهرة في الأشغال الادوية مثل النسج وأشغال الإبرة وتطريز القصب والترتر الأصيل بأنواعه الذهبية والفضية والدنتيل بأنواعه. وبالفعل فقد علمتني هذه الأشغال على أقمشة كانت تصل إلى عدن من الهند من مقصب ومخمل الذي لا يغيره الغسيل والأقطان والمقلم بالحرير والجرجيت بأنواعه الجذابة والبلوري.كانت التوجيهات والإلزامات كثيرة ويومية ، وكنت أخالف بعضها ، فلا أحفل بمداومة الالتزام بارتداء الملابس التقليدية الكاسية الثقيلة ، فألبس ما تخيطه لي الخالة باكزة والدة أختي عزيزة والتي أحببتها ، وكثيرا ما قلدتها في ملابسها الجميلة ، وظلت صداقتنا متينة والود بيننا موصولا إلى أن توفاها الله إلى رحمته. وذات يوم استدعاني والدي ورحب بي وأجلسني إلى جانبه وطلب الي أن أبدأ بحفظ القرآن الكريم غيبا بعد أن ختمت القرآن الكريم قراءة ، وأوكل إلى أخي عبد الله أن يسمع لي في كل صباح ما حفظته غيبا على ألّا يقل عن ثمن الجزء ، وفعلا باشرت الحفظ وبدأت من سورة البقرة وأخي عبد الله رحمه الله يواصل التسميع كل صباح ، وأعانني الله على حفظ سورة البقرة ، وسورة آل عمران ، وسورة النساء ، وسورة المائدة إلى آخرها. وفي هذه الفترة توفي خالي العلامة عبد الله غمضان ، وكان عالما فاضلا زاهدا عكف على التدريس تطوعا بهمة لا يعتريها فتور ولا يصاحبها كلال ولا قصور ، وشيعت جنازته بموكب حافل ضم كل من في المدينة من السادات والأشراف والعلماء والفقهاء والأعيان والأفراد ، ولم يتول الخال عبد الله أي عمل حكومي ، وقضى حياته ينشر العلم ويحرض في الإقبال عليه. ولقد واساني والدي بوفاة خالي وما أزال أذكر عباراته وأنا عنده قال: أعظم الله أجرنا جميعا في خالك فإنه كان قطبا من أقطاب الإسلام. وللذكر فان خالي عبد الله غمضان وأخي الحسين كانا متآلفين روحيا وعلميا لا يترك أخي الحسين فرصة تلوح إلا واجتمع به ، كانا يكملان بعضهما الآخر ، ينهلان من بحور العلم سويا.
أخي الشهيد البدر(أمير الحديدة):
مساء يوم من ذي الحجة 1350 هــ الموافق 24 ابريل 1932م ، كنت ومجموعة من أبناء الأسرة في المفرج العلوي لدار السعادة ، والوالد الإمام يتمشى في ساحة المفرج فإذا بوافد يسرع الخطى نحو الإمام ويقدم له برقية مستعجلة ، ولما قرأها الإمام أسرع إلى السطح وقد ارتسمت أمارات الحزن على محياه ، وهو يذرع المكان جيئة وذهابا وسمعته يتلو آيات من القرآن الكريم ، ثم يغطي وجهه بيديه وكأنه يدمع ولا نحيب ، واعترانا الشك والقلق ، ثم صار القلق جزعا ، وعرفنا أن البرقية تفيد: أن البدر غرق في البحر وان الغواصين لم يعثروا على جثته. عندها وجمت النفوس وشحبت الوجوه وذبلت العيون.. كل من في دار السعادة كان في نحيب من أعلى إلى اسفل صغارا وكبارا. وارتسمت في ذهني صورة أخي البدر الشهيد حين جاء لزيارتنا أنا وأمي في بيت معيض ، وقد تعلقت به وحملني بين يديه وضمني إلى صدره وقبلني وأغدق الهدايا لي ولوالدتي. وفي اليوم التالي ظهرت جثة البدر الشهيد وسكرتيره البهكلي ، حيث رافق الجثمان أخي أحمد وسار الموكب الحزين إلى حجة حيث ووري الثرى في فناء مسجد حجة إلى جانب قبر والدته بحضور الإمام الوالد. لقد اكفهر وجه الحياة من حولنا ورزيت أعظم رزية فقد كان البدر الشهيد يرحمه الله لين العاطفة مثال السماحة والطيبة والأخلاق الحميدة. كان متواضعا مساعدا وعطوفا على المحتاجين ، وكان مجددا مصلحا منفتحا على التقدم والتمدن ، يدعم التعليم وفتح المدارس ويبذل جهده في نشر الثقافة وكان عالما أديبا شاعرا . مات أخي البدر شهيد الرأفة والرحمة شهيد الشجاعة والنزاهة وكان سبب غرقه مشيئة الله وقدره فبينما كان يسبح مع بعض رفاقه عند جزيرة الجبانة بين الحديدة ورأس الكثيب في شمال الحديدة ، وحينما كان يحاول انقاذ سكرتيره البهكلي من بيت الفقيه من الزرانيق الذي كان على وشك الغرق غرقا معا. كان لحادثة غرق أخي سيف الإسلام محمد البدر صدى واسعا في البلاد العربية لما عرف عنه من انفتاح ورغبة في تحديث اليمن وتقدمه وترقيته ، فقد كان الأمل المرتجى في الاصلاح والتمدن . ورغم الحزن واكتئاب الفؤاد فقد حفظت في دفتري أو ما أسميه ديواني قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي رثى فيها أخي البدر الشهيد ومن دفتري أنقل:
مضى الدهر بابن إمام اليمن *** وأودى بزين شباب الزمن
وباتت بصنعاء تبكي السيوف *** عليه وتبكي القنا في عدن
وأعول نجد وضج الحجاز *** ومال الحسين فعز الحسن
وغصت مناحته في الخيام *** وغصت مآتمه في المدن
ولو أن ميتا مشى للعزاء *** مشى في مآتمه ذو يزن
فتى كاسمه كان سيف الإله *** وسيف الرسول، وسيف الوطن
ولقب بالبدر من حسنه *** وما البدر؟ ما قدره؟ وابن من؟
عزاءً جميلا إمام الحمى *** وهوِّن جليل الرزايا يهن
وأنت المعان بإيمانه *** وظنك في الله ظن حسن
ولكن متى رق قلب القضاء؟ *** ومن أين للموت عقل يزن؟
يجاملك العرب النازحون *** وما العربية إلا وطن
ويجمع قومك بالمسلمين *** عظيم الفروض وسمح السنن
وأن نبيهمُ واحدٌ *** نبي الصواب ، نبي اللسن
ومصر التي تجمع المسلمين *** كما اجتمعوا في ظلال الركن
تعزى اليمانيين في سيفهم *** وتأخذ حصتها في الحزن
وتقعد في مأتم ابن الإمام *** وتبكيه بالعبرات الهتن
وتنشر ريحانتي زنبقا *** من الشعر في ربوات اليمن
ترفان فوق رفات الفقيد *** رفيف الجنى في أعالي الغصن
قضى واجبا ، فقضى دونه *** فتى خالص السر، صافي العلن
تطوح في لجج كالجبال *** عراض الاواسي طوال القنن
مشى مشية الليث لا في السلاح *** ولا في الدروع ولا في الجنن
متى صرت يا بحر غمد السيوف *** وكنا عهدناك غمد السفن؟
وكنت صوان الجمان الكريم *** فكيف أزيل؟ ولم لم يصن؟
ظفرت بجوهرة فذة *** من الشرف العبقري اليمن
فتى بذل الروح دون الرفاق *** اليك، وأعطى التراب البدن
وهانت عليه ملاهي الشباب *** ولولا حقوق العلا لم تهن
وخاضك ينقذ أترابه *** وكان القضاء له قد كمن
غدرت فتى ليس في الغادرين *** وخنت امرأ وافيا لم يخن
وما في الشجاعة حتف الشجاع *** ولا مد عمر الجبان الجبن
ولكن إذا حان حين الفتى *** قضى، ويعيش إذا لم يحن
ألا أيها الشريف الرضي *** أبو السجر الرماح اللدن
شهيد المروءة كان البقيع *** أحق به من تراب اليمن
فهل غسلوه بدمع العفاة *** وفي كل قلب حزين سكن؟
لقد أغرق ابنك صرف الزمان *** وأغرقت أبناءه بالمنن
أتذكر إذ هو يطوي الشهور *** وإذ هو كالخفش أغن؟
وإذ هو حولك حسن القصور *** وطيب الرياض، وصفو الزمن؟
بشاشته لذة في العيون *** ونغمته لذة في الأذن؟
يلاعب طرته في يديك *** كما لاعب المهر فضل الرسن؟
واذ هو كالشبل يحكي الأسود *** أدل بمخلبه وافتتن؟
فشب، فقام وراء العرين *** يشب الحروب، ويطفي الفتن؟
فما باله صار في الهامدين *** وأمسى عفاءً كأن لم يكن؟
نظمت الدموع رثاءً له *** وفصلتها بالأسى والشجن
ومن أفعال البدر الشهيد الخيرة، ولا زالت باقية حتى الساعة، شراؤه ست عشرة جارية حبشية وسبعة من العبيد أعتقهم جميعا ، وملكهم مزرعة في تهامة تعرف بمزرعة بني مديخة ، وأما الجواري، فقد حررهن وتزوجن وعشن في أسر كريمة.
وعلى ضريح أخي البدر الشهيد كتبت الأبيات التالية:
إن في القبر إن جهلت لنجما *** طالعا في سماه أهل المعالي
وهو أعني محمد بن سليل *** آل مجد يحيى ابن قاصم الأهوال
سارع الموت نحوه لثلاث *** ورباع من السنين الخوالي
ولقد كان كل من قد رآه *** سام فيه مخائل الإجلال
ومن جملة منظومات الشهيد البدر التي لا زلت أحتفظ بها في ديواني:
يقولون أني مسرف إذ يرونني *** أطوق أعناق الرجال باحساني
فقلت لهم: موتوا جميعا بغيظكم *** فاني شريت المجد بالتآلف الفاني
ألم يأمر الرحمن من كان موسرا *** بإنفاق ما أولاه في نص قرآن
إذا جاء يوم الحشر جئتم بكنزكم *** وجئت بأجر من إلهي وغفران
وللبدر الشهيد ديوان شعر ، رحمه الله لقد جاد بروحه في سبيل إنقاذ نفس من الموت ، وإلى اليوم ما هب صبا بحر الحديدة إلا وجدت نسيم البدر الشهيد وتعزيت بالصبر على الوالدة والخال عبد الله ، وأخي البدر الشاب المثقف التقي المحب لدينه وأهله ووطنه.
في نفس العام، سافر أخي عبد الله إلى الخارج في مهمة رسمية للدولة بأمر من أبينا الإمام، فتوقفت عن تسميع ما حفظته من القرآن الكريم، ولكن والدي كعادته استدعاني وأعطاني بعض الكتب الفقهية، مثل، رياض الصالحين ، وتنبيه الغافلين عن فضائل الطالبين وغيرهما، وحرضني على مطالعتها، وطلب إليّ سؤاله عن كل ما يشكل علي في درسها وفهمها. وسارت حياتي في دار السعادة مع مدرستي وأخواتي وأخواني يغمرونني حنانا وحبا وعطفا فقد غدوت مدللة دار السعادة.
أخواني يزوروني وأزورهم فأقضي عند كل أخ ثلاثة أيام بمرافقة مدرستي، وكان الوالد يرحمه الله ، يتفقدني حتى عند زيارة أخواني، ويستفسر عن أحوالي ودراستي، ولا يمر يوم حين أكون خارج دار السعادة إلا وسأل واستقصى أمري ومدى انشراحي وسروري.
مضت الأيام وانحسرت الأحزان وانقضت أيامها، وعاد أخي الحسين من الحديدة، حيث كان والدي قد أمره بأن يكون أميرا على الحديدة بعد استشهاد أخي البدر ، عاد وقد تأهل بأرملة أخي الشهيد، فاطمة خان، ومعها ابنتها من أخي البدر، أمة الملك.
كان فرحي كبيرا بعودة أخي الحسين، فقد كنت أراه الأخ والأب، وأفخر به، فقد قيل لي: أن أخي الحسين قد بلغ في علمه درجة الاجتهاد وهي رتبة علمية عالية، تحظى بتقدير علماء وفقهاء اليمن. كان أخي الحسين متسامحا زاهدا، عرفت أن أهل اليمن لقبوه بزين العابدين وزين الدين. أما زوجته فاطمة فقد حباها الله نعمة التعقل والحكمة ونفاذ البصيرة، هادئة، حليمة، سديدة الرأي، أنجبت لأخي الحسين أولاده الأفذاذ، عبد الله، محمد، أحمد، الحسن.
لقد أنست بعودة أخي الحسين وعائلته، فتوسعت دائرة زياراتي، وأضيف إليّ عطف على عطف، ورعاية على رعاية، زميلاتي وصديقاتي ونساء أخواني، وأخواتي، وأمهاتي، وبنات الترك. صرت محبوبة الكل، وقلت لنفسي: يا تقية انسي الأحزان.
وحل عيد النحر من سنة 1353هـ ، والاستعدادات جارية للاحتفال بالعيد في دار السعادة، مستبشرين، فرحين،مهللين، وإذا بخبر يفسد علي عيدي وفرحتي، لقد تم إلقاء القبض على خالي محمد غمضان في المملكة السعودية، وأودع السجن، فطار قلبي، وثارت كوامن الوجوم من صدري، وعندما استفسرت، قيل لي: في ذلك اليوم وقع حادث مؤلم، إذ بينما أكمل الملك عبد العزيز آل سعود رمي الجمرات في صباح العيد، ودخل مكة المكرمة لاستكمال شعائر الحج، وفيما هو يطوف بالبيت العتيق، وبرفقة ابنه ولي العهد، صاحب السمو الملكي، الأمير سعود، ويحف به قلة من الجنود حاول اثنان من الاشرار من بيت حاضر من اليمن الاعتداء عليه، فقد اندفعا إليه وهما شاهران السلاح فتصدى لهم سمو ولي العهد سعود دون والده جلالة الملك، فأصيب الأمير سعود بجراح في كتفه من أحد المعتدين الذين قتلا في الحال وكان خالي محمد غمضان آنذاك مسؤولا في ذاك الموسم ، واستدعى خالي للمسائلة والتدقيق ولما نظر المحققون في القوائم التي سجلت فيها أسماء قافلة الحج اليمني، لم يجدوا أسماء المعتدين ضمن القوائم وإنما دخلا متسللين متربصين بالملك عبد العزيز. وما كان من والدي الإمام إلا وأن أبرق للملك عبد العزيز مهنئا بالسلامة، ومدينا للجريمة الشنعاء وبراءة أهل اليمن من الفعلة النكراء، وللتو أفرج عن خالي محمد غمضان، وعاد سالما بعد انقضاء موسم الحج.
وكانت حجته هذه الحجة الأخيرة ، فقد توفي رحمه الله في العام التالي قبل موسم الحج، وتأسيت وصبرت.
كانت حياتنا اليومية تسير وفق ما اعتدناه في دار السعادة، الإمام يبدأ يومه مبكرا يصلي الصبح ثم يقرأ شيئا من آيات القرآن الكريم، ثم يخرج لمواجهة العامة عند طلوع الشمس إلى ميدان السراي، فيجلس تحت ظلال شجرة الفلفل الكائنة بالميدان أو تحت مظلة كبيرة من القماش، يأتي إليه عامة الناس مباشرة دون حجاب،يسمع شكاويهم ويتسلم عرائضهم، والدخول في هذا الوقت مباح لجميع الناس، ثم يقوم بجولة خفيفة في عربته، وعند الظهر يتجه إلى أحد جوامع صنعاء فيصلي، وأثناء ذهابه وإيابه يظل يتقبل شكاوى الناس وعرائضهم، وقد ينزل من عربته ويتفيء ظل أحد المنازل، ويقرأ الشكاوى ويسلمها للمأمورين للتحقق منها وإنفاذها، ثم يعود إلى المنزل أحيانا لأداء الصلاة، إن لم يكن قد أداها في أحد المساجد، والغداء مع أولاده ويستريح قليلا، ثم يذهب إلى المخيم المنصور، مقر الحكومة، ويستقبل الوزراء ورجال الدولة والموظفين ورجال الديوان، للنظر في شؤون الدولة وتصريف الأعمال الإدارية، وقبيل صلاة المغرب ينصرفون من عنده فيعود الإمام إلى أهله للوضوء والصلاة. وفي المساء نجتمع كلنا حول الإمام، فيقرأ كتابا في الفقه أو التاريخ، ويستفسر عن أحوالنا وشؤوننا، حتى إذا كان موعد العشاء اكتفى بحبة من الفاكهة أو قطعة من الحلوى وكوبا من اللبن، وكان هذا شأنه سواء كنا في دار السعادة أو دار الشكر أو دار الحجر، في وادي ظهر أو الروضة.
المفاجأة الكبرى
ذات يوم من صيف عام 1354 هـ، وكنا في مصيف وادي ظهر فجأة حدث ما لم يكن بالحسبان وما كان يخطر على البال، ولا تصورته في مخيلتي، كنت فتاة قد اقتربت من الثالثة عشرة من عمرها، ما زالت نشوة الفتوة تجلل كياني، وحبي لأبناء أسرتي وزميلاتي وصديقاتي يكبر مع الأيام. في ذلك اليوم وصل السيد عبد الله بن علي الوزير من تعز وبرفقته القاضي محمد راغب وطلب السيد عبد الله يدي من والدي الإمام وعندما سألوني صعقت وبكيت اضطربت كموج البحر، تواردتني الخواطر، كيف أفارق البيت الذي فيه ربيت، وفيه درجت ثم من هو هذا الخاطب الذي لا أعرف عنه شيئا لا أعرف رسمه ولا حتى صورته ولا سمعت عنه شيئا. فكيف أترك مراتع أنسي وفرحي عند أبي وأخواني وأخواتي وأغادر إلى بيت ما عشت فيه ولا زرته وأعاشر قرين لم آلفه.. ما بالي وصويحباتي وزميلات السطوح والأرجوحة والمسبح والحديقة. كانت نظراتي حائرة فيها من الدهشة والغرابة والاستفهام ما يجعل القلوب تنفطر ولكن ما حيلتي وأخي الحسين يلح علي في القبول يطري ويثني ووالدي يكرر الثناء عليه وعلى والده العم علي الوزير ، بين التيه والادراك والممانعة والاستجابة لرغبات الوالد والأخوان كانت الموافقة الخجولة على هذا الخاطب. كل ما عرفته عنه أنه يكبرني بما لا يقل عن سبعة عشر عاما وسبق له الزواج ثلاث مرات زوجته الأولى دولة بنت عبد الله باشا، وقد توفيت، ثم ابنة أخي أحمد ولي العهد، وتوفيت في حالة الولادة، وزوجته الثالثة ابنة الشيخ عبد الله عثمان وقد فارقته بالحسنى.
وما هي إلا أيام حتى طلب إلى الإمام التعجيل في العرس فعدنا من وادي ظهر إلى صنعاء، وجرى تجهيزي للعرس في أقل من شهر، كان الاحتفال في دار السعادة، وكان عرسا كبيرا عزفت فيه موسيقى الجيش المقطوعات الدينية والوطنية لثلاثة أيام والرقص بساحات دار السعادة بالعصي والسيوف للرجال وعلى قرع الطبول والمنشدون يصدحون بالاناشيد الدينية وبأنغام ساحرة ، وجمال العرس يزينه اختلاف الأزياء وتنوعها ثم الولائم والأسمطة التي مدت أما نساء دار السعادة والمحتفلات من المضيفات فيغنين أعذب الألحان في قاعة النساء الخاصة. في غمرة هذا النشوان بل العنفوان من الفرح، كان لي حزن لم يشاركني فيه أحد وخاصة عندما حانت ساعة الانتقال إلى بيت العريس في حي الصياد. لم تكن النقلة من دار السعادة إلى دار الصياد هينة علي، فلقد تعلقت بدار السعادة كانت كل دنياي وعالمي ، قضيت فيها أحلى أيامي ، لا أخرج منها إلا لماما لزيارة قصيرة أو لأيام معدودات. لقد أحببت دار السعادة لأهلها شاطرتهم الأفراح والأحزان ومحضتهم صفو الود والولاء. عجبت لعيني كيف ستنام وتفارق الأهل والأحباب. ودار حوار بين نفسي وعقلي وقلبي: هل حقا يا تقية ستصبحين زوجة لمن لا تعرفين.
قلت بهمس: وما الضير في ذلك فكل بنات زماني يتزوجن على شاكلتي، وأردفت لعل هذا الخاطب أراد أن يقترب لوالدي ، فيفوز برضاه ويحقق ما يريد من علو شأن وأني مدللة الوالد والأسرة ولكن جاء التساؤل أن أعمامي من آل الوزير بيت رئاسة، وهم من أركان الإمامة منذ البعيد.
وتراجعت وتمتمت: ما بال الأفكار تتزاحم في ذهني؟ الفكر يمتلىء ويهيج نفسي فصبرا ، لم لا تكوني عاقلة؟ والعقل يحتاج إلى التجارب ، لماذا لا تجربي يا تقية تلك الحياة الجديدة؟ كوني زوجة صالحة واملئي البيت مودة ورحمة ، وكوني خير متاع لزوجك. وكان الانتقال والزواج ، ولعل فراسة والدي وهو الحكيم الخبير والعلامة المجتهد القدير وله تجارب كبيرة قرأ ما يعتمل في ذهني وما دلت عليه ملامح محياي فزف إليّ خبرا سعيدا.
قال: لقد خصصت لك يا تقية ولزوجك بيتا في حي الروضة للسكن فيه فالروضة أطيب هواءً وأكثر اعتدالا وأشد خضرة من حي الصياد. وللحقيقة، لقد أفرحني ذلك الفرح كله، وانتشيت فإني سأرى والدي وأخواني وأخواتي كل يوم. ولم يمض شهر ونصف على سكننا في الروضة حتى أخذت الرسائل تنهال على والدي الإمام مرسلة من عمي علي الوزير تستعجل وصولنا إلى تعز حيث كان العم علي أمير لواء تعز ، وبدت سعادتي وكأنها انتقصت فأنا بطبعي أنفر من السفر وتبرمت ولكن الأهل أخذوا يرغبونني في السفر والإقامة في تعز الجميلة ، كل واحد وواحدة يصف لي تعز بأحلى الأوصاف ، ثم استدعاني الإمام ونطق بكلمات كان لها أثرها في تهدئة قلقي: يا تقية في أي وقت تطلبين زيارة الأهل في صنعاء، سيكون طلبك مجابا حالا، وزوجك عبد الله سيكون أول الموافقين. وللحقيقة، فان معاملة زوجي لي كانت طيبة جدا ، يقدرني ويحترمني ، وما خاطبني يوما إلا بكل لياقة وأدب وإكبار ، وتفضل والدي يرحمه الله فأمر أخي القاسم بمرافقتي وبمعيته الوالد يحيى بن يحيى النهاري وكان زميلا لأخواني في المدرسة العلمية لطيف المعشر، وموضع ثقة الوالد ، ورافقتني أستاذتي حورية الخياري، وكان لوجودها معي أكبر الأثر في التخفيف من وعثاء السفر ووحشة الانتقال. وتحرك موكب سيارتنا مخترقا شوراع صنعاء وبدا مني وداع لمدينتي التي ما تنسمت هواءً غير هوائها ، ولا شربت ماءً غير مائها ولا استفأت بظلال أشجار غير أشجارها الخضراء الوارفة . أواه يا صنعاء كيف احتمل اجتياز شوارعك في هذا الموكب. ودّعت صنعاء بدمعة تلظى بها مآق العينين حيثما لاح بريقها في خيالي ، وكانت سيارتنا تنهب الأرض مسرعة حتى وصلنا الحديدة وهي مدينة جميلة أبنيتها بيضاء تتماوج أشعة الشمس على جدرانها فتزيد منظر المدينة زينة وجمالا. وقابلنا العم عبد الله بن أحمد الوزير حاكم المدينة ، والأصول أن نمضي في ضيافته ثلاثة أيام فأنزلنا في دار الحكومة وأقيمت الولائم واحتفى بنا احتفاءً كبيرا زاد فخامة الألحان والأنغام التي تصدح بها فرقة موسيقى الجيش. في الحديدة ، تقاطرت نساء الكرام العوائل للسلام والتهنئة ، وكنت مرتاحة بوجود الأخت فاطمة المتوكل زوجة العم عبد الله بن أحمد الوزير فهي أخت والدتنا حورية زوجة والدي الإمام ثم بنات محمد أفندي رضا مدير شرطة الحديدة ، وخاصة الأخت كوكب زوجة أخي المطهر فيما بعد وأختها وحيدة وانتهت أيام ضبافتنا في الحديدة وسافرنا واناخ موكبنا في مدينة زبيد الخالدة مررنا بوادي زبيد الخصيب وأبهج ما فيه من نخل وزروع وشجر نخله باسق وماؤه جار. مدينة زبيد عبق من التاريخ هي مدينة العلماء وفقائها ومدارسها وما فيها من آداب وعلوم وكثيرا ما كنت أسمع والدي يشيد بجامعها الكبير وبمن درس أو درس فيه من كبار علماء اليمن ومن خلال نافذة السيارة لمحت مئذنة عالية قيل لي: أنها مئذنة الجامع الكبير ورأيت عشرات المآذن الأخرى مرتفعة فوق قبب المساجد وعقودها. وقابلنا مرحبا حاكم المدينة السيد أحمد بن عبد الرحمن الأنباري رحمه الله فأقام الولائم والأفراح وكان والدي يصفه بالثقة وبالعادل والمنظم والدقيق في أعماله. وأذكر أن أخوتي الحسن والحسين وعبد الله كثيرا ما قاموا بزيارات إلى مدينة زبيد بقصد الافادة والأخذ عن علمائها وفقهائها. وكان السلام وحديث التهنئة والتبريكات ثم قال: انتم الرأس والعين وسأكون لكم أبا وأما سأكون لك الأب الثاني وستجدين عندنا كل اعزاز وللوهلة الأولى شعرت بنوع من الاطمئنان حياله وعدنا إلى موكبنا نواصل الرحلة حتى أشرفنا على مدينة تعز ورأيت جبل صبر الخصب يعانقها من جهة الشمال هي مدينة جميلة ميانيها مزخرفة وطوابقها عالية تزدان بيوتها بالاشجار الخضراء المرتفعة من داخل باحات بيوتها الواسعة أشجار المانجو وأشجار الزينة المتسلقة وشدني ما زين شوارع المدينة من أقواس المحلاة بسعف النخيل وعسائب الأغصان الوردية. في تعز مقر العم علي الوزير وأسرته رأيت جمعا من النساء والبنات قد خف لاستقبالي وأنظر في الوجوه فلا أعرف أحدا من الستقبلات المهنئات وما في ذهني غير ما سمعته عن زوجة العم علي، ابنة أبو راس، فاقتربت من مربيتي وهمستها: أين هي بنت أبو راس؟ أريد أن أتعرف عليها؟ وفاجأتني بقولها: انها هي التي تتكلم وترحب بكن وهي التي تلقي عبارات التهنئة الحارة. وحدقت نظراتي بها فاغرة فمي وقلت في نفسي: تلك ملأت أسماعنا أخبارها وكانت حديث مجالس النساء في صنعاء وكنت قد رسمت لها صورة في مخيلتي انها امرأة بارعة الجمال كلها أناقة ونعومة وترتيب. وحين وقع بصري عليها وقفت مدهوشة من المنظر الذي راعني اني أرى امرأة سمراء على سمرتها السواد الحالك شعرها أسود منقوش متناثر في كل الاتجاهات وكأن المشط ما عرف طريقه إلى شعرها سلاسل وخلاخيل وأقراط فحيثما تحركت قرعت أجراس خلاخيلها الفضية الكبيرة وتراكضت سلاسل عنقها لازدحامها وتراقصت أقراط أذنيها أماما خلفا خلاخيلها وسلاسلها تنبىء بقدومها وأما ملابسها فقد حشدت كل الألوان فبدت وكأنها كسيت بحديقة من الورود الحمراء والصفراء والزرقاء والبيضاء. عندها دار في خلدي أن لهذه المرأة مكانة تعلو هيئتها واسترجعت ما سمعته عنها فاطمة بنت النقيب عبده أبو راس ذات العقل الراجح والقلب العطوف على الفقراء والمساكين الكريمة الشجاعة رباها عمها النقيب حسن بن قاسم ابو راس ، كبيرمشايخ بكيل وزعيمها الأول. والنقيب في بكيل وقبيلته بكيل احدى جناحي اليمن هذا هو سر قوتها ومكانتها عند الأمير الكبير العم علي الوزير. ونزلت في دار العرضي وهي من بيوت الدولة وكانت تجاورني في المنزل القريب إلى منزلي أمة اللطيف بنت الوالد عبد الرحمن الشامي الزوجة الرابعة للأمير الكبير، العم علي الوزير. وكان الأمير الكبير قد تزوج قبلها:
- أمة الرحمن بنت حمود إسماعيل مفضل.
- السيدة نونة بنت مفضل.
- دولة بنت محسن باشا
- حسناء بنت حسان، من أسرة آل حسان الصوفية.
أنست بجواري لأمة للطيف بنت الوالد عبد الرحمن الشامي، العالم الفاضل الورع، وزوج أختي ام هانىء، أما نساؤه الباقيات علي قيد الحياة نونة وفاطمة فسكناهن في قلعة القاهرة حصن تعز. وللأمير الكبير أخت متقدمة في العمرن كانت أنيسة ولطيفة المعشر وفيما كنا نتجاذب أطراف الحديث لمحت عن بعد طفلة صغيرة لم تتجاوز السادسة أو السابعة من عمرها ولما استفسرت قالوا لي: انها ابنة زوجي من زوجته دولة بنت عبد الله بن علي باشا ودولة بنت أحد كبار مشايخ العدين، وصفت بدماثة الأخلاق وروعة الجمال، أديبة عطوفة، ماتت محزونا عليها وتركت طفلتها فاطمة فآليت على نفسي أن أتبناها، أدنيتها مني وأحببتها لعلي تذكرت حالي عند وفاة امي، ولهفي على والدتي والحزن الذي توطن في كبدي جعلتني أحنو على فاطمة ابنة زوجي، فكانت قريبة إلى روحي وقلبي. وأقيمت الأفراح في تعز الرقص والأناشيد والموسيقى وكان ذلك في نصف شعبان على ما أذكر من نفس العام . في نهاية شهر شعبان طلب أخي القاسم العودة إلى صنعاء فاستوحشت للفراق المحتمل واضطربت احوالي وبت مكدورة محزونة فقد كان وجود أخي القاسم يخفف آلام الغربة والانتقال ويدخل الطمأنينة على قلبي ويشعرني بالراحة فمن خلاله اتنسم هواء صنعاء وأستنشق ريح والدي وأسرتي. وعرف العم الأمير الكبير بحالتي وما أعانيه فأبرق لوالدي الإمام يستأذنه في السماح لأخي القاسم بأن يصوم رمضان معنا في تعز وأدرك والدي بحصافته وبعد نظره حقيقة دواعي ذلك فعاد البرق بالإيجاب. وقد فرحت لتمديد افامة أخي بقربي وبعد عيد الفطر كان لا بد مما ليس منه بدن وغادرنا أخي القاسم مع رفيقه. ولقد ترك سفر أخي القاسم فراغا كبيرا وعاودتني الهواجس وخيم على روحي وقلبي قلق واضطراب بديت غير مرتاحة خائفة وجلة وتصورت أن صلتي بوالدي وأسرتي سوف تعتريها الأيام وشعر عمي الأمير الكبير بما آل إليه حالي فحاول التخفيف علي وخلق أجواء جديدة تسليني وتقلل من وحشتي وما هي إلا أيام معدودات حتى أمر باصلاح المسبح الكائن تحت منزلي وركبت أرجوحة جوار المسبح كان قد طلبها من عدن ووصل معها جهاز فنوغراف. وبدأت أعتاد على نمط حياتي الجديدة زائرات من أسر كريمة يزرنني في المساء الأخت نورية زوجة أحمد باشا وكنت أرتاح لمجالستها عرفت منها الوفاء والإخلاص ونعم الصديقة هي وقد تواصل الود بيننا من يومها ولليوم ما زلنا نتجاذب الذكريات فتروي الكثير من أيام مرابع شبابنا وتذكرني بأحداث لا ننساها والأخت نورية حاضرة البديهة دوما والأمثال دائما على طرف لسانها ولطالما أوردتها فلكل مقام عند الأخت نورية مثل حاضر ينير ويثير. وصار لي في مدينة تعز مجتمعي النسوي ، فاطمة بنت أبو راس أصبحت من أقرب الصديقات الي لطالما تتفقدني وسهلت لي الكثير مما لا اعرف كيف اتدبره بدون مساعدتها كانت طيبة وانمحت صورتها الأولى التي صدمتني من فكري واستبدلتها بذاك المثل " الناس مخابر ما هم مناظر".
عرفت من خلال مجتمعي النسوي الجديد أن على الزوجة إلا يدخل زوجها بيته وهي نائمة حتى لو عاد في ساعة متأخرة من الليل وانما يجب أن تكون بانتظاره وعليها أن تصحو مبكرة قبله وتحافظ على مظهرها ومكانتها في كل وقت. للزوج الطاعة والاحترام والتقدير متزينة دوما فلا تقع عينيه إلا على جميل منها حتى غرفتها فلا تتركها للخدم لتوضيبها وترتيبها وانما تتولاها هي بنفسها وتحفظ ما فيها وان لم يكن فلا تستدعي الخادمة إلى داخل غرفة نومها إلا بعد رفع ما يكون فيها من الخصوصيات أواه من زوجات هذا الزمان. عند سهرنا في المساء كنا نتسلى بالراديو وأيامها كان طول الراديو مثل طول باب الغرفة أما الفنوغراف فلم أجرؤ على اظهاره لأنه شيء مكتوم في ذلك التاريخ فالوالد ما كان يسمح لنا بالانشغالبالغناء وترك الأمور الأهم من مطالعة وتدبير شؤون النفس والبيت واما أوقاتي الأخرى وخاصة في النهار فتكون بين الراديو والمسبح والارجوحة والمطالعة وقد قرأت كافة ما كتبه جرجي زيدان من روايات تاريخية وأدبية وفي بعض المرات كان يأتي نساء إيطاليات لزيارتنا نساء إيطاليات وكان من بين الإيطاليات الصديقة روزانا زوجة احد العاملين من الطليان في تعز وقد سببت لي احراجا لا أنساه. كانت روزانا الإيطالية كلما زارتني تحمل معها دفترا وقلما تسجل فيه بعض الكلمات العربية لتحدثني بها وأسجل أنا بدوري بعض الكلمات الإيطالية علنا نتفاهم مع بعضنا مما تعلمناه. ذات يوم جاءت لزيارتي بعد العصر فتحت دفترها وقرأت جملة مكتوبة بالعربية " لبسوني من لباسكم العربي" فأدخلتها أنا وأستاذتي إلى غرفة الملابس وألبسناها من احسن ما عندي من ملابس المناسبات وطوقنا عنقها باحسن عقد ووضعنا على رأسها قبعة مما نصنعه نحن وكانت بطبيعتها ذات الجمال فازدادت وزادت جمالا سبحان الله الخلاق وفي لمحة البرق طارت من بيننا وأسرعت مهرولة إلى الخارج ودلفت إلى الحوش المؤدي إلى مجلس عمي الأمير الكبير وكان المجلس غاصا بالرجال. فيهم عامل تعز محمد بن أحمد باشا المتوكل والقاضي حسين الحلالي وغيرهم ورآها الرجال ذهلت وتمنيت لو أن الأرض انشقت وابتعلتني أما عمي الأمير الكبير فقد اندهش لفعلتها وأحرج أيما احراج سيما وأن زوجها كان بانتظارها في ذلك الحوش ومن ثم دعته إلى البهو لالتقاط الصور التذكارية حتى إذا ما انتهت عادت الينا فرحة مسرورة أما أنا فكدت اجن من هول ما فعلت فلربما تبادر إلى أذهان الحاضرين أني أو أن احدى النسوة قد أصابها مس من الجنون. وعاتبتها بكلمات عربية وإيطالية مكسرة وبالايماءات والاشارات تارة وبحركات الاصابع والأيدي وتبريم الشفاه وتكدر الوجه تارة أخرى ولم تعبأ لكل ذلك وظلت تلك الكلمات التي سبق وان سجلتها في دفترها عادي ....... عادي....... عادي.
في زيارتها التالية لمنزلنا وبعد أن شربنا الشاهي دعوتها مع جمع من الزائرات للنزول إلى حديقة المنزل وقدتها إلى رف المسبح بقصد أن تتفرج على مهاراتي في تلعيب الارجوحة وتمرجحت قليلا ثم وفي غفلة منها قفزت إلى المسبح بقوة وبالقرب منها فتناثرت المياه وبللت كل ملابسها وحتى شعرها وضحكنا كلنا على منظرها وقد تصورت اني رديت لها مقلبها وما سسببته لي من احراج ولكن هيهات فاني كنت أتوقع ملامة وتقريع من عمي الأامير. أما عمي الأمير الكبير فقد تجاهل الامر كليا ولم يصرح أو يلمح لي بكلمة واحدة وكأن شيئا لم يكن. في هذا العام زارني خالي العظيم إسماعيل غمضان وسألني عن احوالي واطمأن علي وما زارني خالي إلا وحمل معه الكثير من الهدايا وقد أمضى الخال بضيافتنا ثلاثة أيام كان لها أثرها الطيب في نفسي وحدثني بأخبار والدي وأخواني وزميلات السطوح وأبلغني شوقهن للقائي. ذات يوم بعد زيارة خالي أبلغني زوجي انه سيغادر إلى عدن بداعي الفحص والمعالجة فقد سبق له أن أصيب بالسل " الاثر كما نسميه. كما أصيب به أكثر من واحد من عائلته ولكنه تطبب في عدن وعوفي بمشيئة الله ولكنه ذاهب للكشف ليس إلا وسيعود مسرعا. ثم نعمت بزيارة أخي الحسين وقد طرت فرحا لبقائه في ضيافتنا لثلاثة أيام وكنت أحظى برؤيته كل يوم فيبثني حنانه وينقل الي اخبار والدي وأخواني وأخواتي ثم غادرنا محفوظا برعاية الله إلى لندن لحضور حفل افتتاح القسم العربي باذاعة الشرق الأدنى البريطانية أن زيارة خالي إسماعيل وزيارة أخي الحسين قد هيجتا الاشواق عندي لرؤية والدي وأسرتي واعتمل في صدري نوع من الحنين المتأهب لصنعاء ودار السعادة فوجدت نفسي امسك بقلمي لأكتب لوالدي برقية أستاذنه في السفر إلى صنعاء وكان زوجي وعمي قد وافقا قبيل ذلك وكنت واثقة ومتأكدة من موافقة والدي الإمام . فقد وعدني عند ارتحالي إلى تعز باجابة طلبي في الحال عندما اطلب زيارة الأسرة في صنعاء فوالدي يرحمه الله ما اخلف وعده يوما فجاء الاذن بالموافقة وسافرت وزوجي إلى صنعاء وعدنا إلى بيتنا في حي الصياد أمضينا فيه قرابة شهر ونصف عاد زوجي بعدها إلى تعز لظروف عمله حيث كان عاملا على مدينة ذي سفال وبعد شهور وصل إلى صنعاء للزيارة وقبيل وصوله أمرني والدي بالذهاب لاستقباله في منزله في حي الصياد وكان ذلك.. و كنت أشعر بحالة من القلق وشرود الذهن تنتاب زوجي ويبدو لي أنه دائم التفكير في أمر ما لم أستطع تحديده وفرضت علي آداب التربية والطاعة إلا أتدخل في شؤونه وذات يوم من أيام ذي القعدة 1357هـ/ يناير 1939م وكنت إذ ذاك في زيارة لوالدي بدار السعادة وصلت برقية من عمي الأمير علي إلى الوالد الإمام مضمونها: الاستئذان بسفره لأداء فريضة الحج وفيها يرجو الاذن أيضا للولد عبد الله (اي زوجي) وابن أخ الأمير الكبير حاكم المقام (دار السعادة) محمد بن محمد الوزير بمرافقته لأداء الفريضة وهذه البرقية اطلعت عليها وقرأتها كانت من عمي لأن والدي يرحمه الله عرضها علي وسألني: ما رأيك في سفر زوجك لأداء فريضة الحج؟
فقلت للوالد: لا مانع.
فقال لي: خذي معك البرقية واعرضيها عليه فان وافق قولي له: يتأهب للالتحاق بالباخرة إلى الحديدة.
وبالفعل فقد اخذت البرقية من والدي وعرضتها عليه فأبدى موافقته للحال والتو. فقلت له: أن الإمام يطلب اليك أن تلتحق بالباخرة في الحديدة ومع أني كنت شبة يافعة ولكن ما ورثته من رؤى والدي والعلم الذي تلقيته فقد أزعجتني موجة الفرح والانبساط التي كست وجهه وغاب عن فكره أن يقول لي كلمة واحدة تحتاجها الشابات في هذه المواقف من الغيبة والسفر حتى ولو كان لأداء فريضة. وفي صبيحة اليوم التالي نهض مبكرا على غير عادته وبدأ يساعدني في توضيب حقائبه وأحزمته للسفر وأثناء ذلك جرى بيننا الحوار التالي:" أدعو الله عند الكعبة أن لا يعيد عليك المرض وأن يمتعك بالصحة والعافية واني بانتظار عودتك أنا والضيف القادم.
قال: باذن الله سأفعل.
قلت: هل ستتأخرون بعد الحج.
قال: سأعود مسرعا إن شاء الله بعد اتمام الشعائر وعلى الفور قالها بتلعثم ودون تركيز وشعرت بعدم الراحة. ودعته وانصرفت وأنا ادعو له ولعمي الأمير بالسلامة في الحل والترحال.
ولا أخفي اني كنت سعيدة لسفره وليس معاذ الله تخلصنا منه ولكنني بسبب انتقالي إلى دار أسرتي فترة غيابه بالفعل عدت إلى دار الشكر حيث واصلت حياة الصبا بين افراد أسرتي. إذا جاء المساء كنا نعقد جلسة شعرية نتساجل الأشعار أنا وأخوتي وأخواتي وكنت أحب تلك المساجلات وما زلت احفظ الكثير من أشعارها أو نتبارى بالمسائل الحسابية أو التلاعب بالحروف واكتشاف الجملة الصواب وطرح الأحجيات والألغاز ومن الألغاز التي فزت بحلها وما زالت في ذاكرتي رغم السنين والحوادث.
ما اسم الذي تيمنى حبه وعذب القلب العذاب الأليم
فنصفه يأمرني أن أبر ونصفه يأمرني أن أهيم
وحلها : إبراهيم
ومنها:
هاكم اسما خماسيا إذا حذفوا الخمسين بات
واذا صحفت هذا فهو من تاب إلى الله بمحو السيئات
ثم أن غاب فخمسيه لنا آب أو أن شئت آت
انه بر ولكن عق في ما بقى حتى نراه الليل بات
وحلها: حكمت: عقبات
وكنا نقدم جائزة لكل من حل اللغز في دقيقتين
وداهمتني آلام الولادة وأنجبت ابنة جميلة اسماها والدي أمة العزيز. وقد فرحت بها فرحا عظيما فقد استقبل كل أفراد الأسرة قدومها بالحبور والسرور وخاصة الوالد فقد هنأني بالسلامة وبارك لي بالمولودة الجميلة وغمرني أخواني وأخواتي بهدايا زمزميات الضيفة الجديدة. وعاد عمي الأمير الكبير من الحج وعاد معه حاكم المقام ابن أخيه محمد ولم يعد زوجي قالوا لي: انه سافر إلى مصر للدراسة ثم جاء عمي وابن أخيه لزيارة الإمام والسلام عليه في صنعاء. أما أنا فلم أعط الأمور أكثر مما تستحق فالنساء لا دخل لها في خصوصيات الرجال ولكن مقام عمي فترة من الزمن في صنعاء دون أن يعود إلى مقره الرسمي في تعز جعلني ابحث عن السبب فعرفت أن أخي سيف الاسلام أحمد يقوم بتصريف الاعمال في تعز وكان الامر عاديا بالنسبة لي. ابنتي تكبر مع الأيام وتزداد زينة وحلاوة هي كل شاغلي اداوم العناية بها فالأمومة شيء جميل عرفت حينها ذاك الحنان والعطف واللطف الذي كانت والدتي يرحمها الله تسبغه علي. في احد الأيام وكنت احمل ابنتي في حضني فإذا بها تتقيأ بشدة ويصفر لونها وبدت متعبة غير قادرة على الحركة أصابني رعب لا حدود له ولاحظ أخواني حال ابنتي فأسرعوا لاستدعاء الطبيب والذى فحصها من قبل بلغنا الطبيب أن الطفلة تعاني من تسمم في الامعاء سببه حليب المسحوق الذي كانت تتغذى به وحين نظر الطبيب إلى علبة الحليب الفارغة وجد أن مدة صلاحيته قد انتهت منذ مدة طويلة وان الحليب لم يكن صالحا للتغذية. واقترح الطبيب ضرورة محاكمة البائع وكان تاجرا أعجميا لا أذكر اسمه وانما كنا نعرفه " بفلان العجمي" ، غير أن أخي عبد الله رحمه الله حاول تجاوز الامر وطلب إلى الطبيب التركيز على معالجة وظلت ابنتي اياما تحت اشراف دقيق من قبل الطبيب حتى من الله عليها بالشفاء وحين رآها والدي الإمام رحمه الله معافاة وبصحة جيدة وعاودتها الابتسامة واللعب وحركاتها الرائعة أطلق عليها اسما آخر وصار يذكرها "البنت ربح" لأننا ربحناها من الموت فقد وصل بها المرض إلى حالة يئسنا معها من شفائها لولا مشيئة الله ولكنها ازهرت وبدت كوردة جميلة في حديقة خضراء فعين لها عسكري اسمه حسين الرباق يتولى مرافقتها إذا ما اخرجتها لفسحة أو نزهة أو لشم الهواء كما نقول.
من تقاليدنا المستكرهة خروج بنت من احدى دورنا إلى الشارع مهما كانت الاسباب أما ابنتي فكانت الدلوعة والمحبوبة وكنت متأكدة من حب والدي ومدى دلالي عنده وأعرف أنه لا يرفض لي طلبا فكنت انتهز الفرصة أجمل ابنتي بأحسن أزيائها قميص وجاكيت صغير جميل وطاقية وجوارب وحذاء وأزينها فتبدو بصورة ملائكية اخاذة وادخلها والدي رحمه الله قائلة: هل تأذن حضرتكم بخروجها لشم الهواء والتنزه على عربتها. وكنت إذ ذاك استرق النظر إلى وجه والدي الإمام رحمه الله وارتاح عندما أرى اسارير وجهه قد انفرجت وافترت شفتاه عن بسمة رقيقة وخفيفة حانية أرى بريقها من عينية فيكون جوابه دوما لا بأس على أن يرعاها ويهتم بها العسكري حسين البراق. فأعود مهرولة ويمضي بها العسكري حسين البراق يجر عربتها فتقضي وقتا كافيا ثم تعود الي مسرورة منشرحة فأضمها إلى صدري في عناق طويل وتمر السنوات وروزنامة الزمن تتقلب سنة أولى غياب الزوج ثم سنة ثانية غياب وسنة ثالثة حتى السنة التاسعة. تسع سنوات غاب فيها زوجي وهو لم ير صورة ابنته ولا رأى رسما لها ولا عرفت هي الأخرى وجها له واذا ما سألتني اقول انه يدرس ويتلقى العلوم في مصر كان يحزنني بأن زوجي لو رأى ابنته في أي مكان في هذا العالم لما عرف انها ابنته وهيهات في كل سنة يرسل رسالة يتيمة وأحيانا في كل سنة رسالة يتبعها بالثانية احيانا وكل ما في رسائله انه يكن لي كل ود وحترام وتقدير ولا يذكر شيئا عن العودة أو انه مشتاق لرؤية ابنته ورسائله اعرضها على والدي دوما.
كنت أسأل نفسي احيانا ألهذا الحد مشغول بالدراسة والجد والاجتهاد يقولون: أن الدراسة في مصر لا تكون في فصل الصيف إذ لا بد من الاجازة كما عندنا. ترى لماذ لم يحاول ولو مرة واحدة أن يفكر بزيارتنا. إلا يشتاق لي ولابنته وللوطن واهله. ثم أن غياب زوجي لسنوات تسع كاملة ما جعلني افكر بتاتا بطلب الطلاق منه واني اعلم أن الشرع يعطيني الحق في لطلاق بعد غياب ثلاث سنوات وبدلا من ذلك فقد تأسيت بقول رسول الله صللى الله عليه وسلم، أيما امرأة غاب عنها زوجها فحفظت غبيته في نفسها وطرحت زينتها وقيدت رجلها وأقامت الصلاة فانها تحشر يوم القيامة عذراء طفله.
ولا أكون مغالية أن قلت: لم يخطر موضوع الطلاق على بالي فأنا أعيش في سعادة غامرة عند أبي وبين أخوتي الذين أغدقوا علي وعلى ابنتي الكثير من الهدايا فما عادني واحد منهم إلا وحمل اجمل ما يهدى وكل ما يتمناه انسان. ضاءت الدنيا لي بابنتي وها هي امام ناظري وبرعايتي بدأت ابنتي الدراسة عند أستاذتي كانت ابنتي ذكية وأكملت قراءة القرآن والحمد لله على كل حال.
رحلتي مع الأدب والشعر
أما أنا فكانت لي رحلة أخرى فان ملكة الشعر والأدب أصيلة في أسرتنا والدي رحمه الله ينظم الشعر ويرتجله وأخواني أحمد والبدر الشهيد والحسن والحسين كلهم يقولون الشعر أما أخي علي فمقامه في الشعر معروف مشهور كانوا يطلقون عليه " أمير شعراء الجزيرة" وله العديد من القصائد المنشورة ولا غرابة أن تكون رحلتي التالية مع الشعر والأدب فالشيء من معدنه لا يستغرب. كان قول رسول الله صلى الله عليه وعلى وآل سلم :" أن من الشعر لحكمة ومن البيان لسحرا يثير مكامن الشعر في وجداني تصل أبيات الشعر إلى قلبي بلا اذن ولا استئذان. كانت البداية الاحجيات والالغاز الشعرية منها ما كان نتداوله في لقاءاتنا الأخوية أو ما أقرأه في الصحف استمالتني تلك الالغاز الشعرية وحبب الي الشعر فعمدت إلى دفتر مجلد أسميته "ديواني" وحدبت على تدوين ما يروق لي من مقتطفات أو لقطات شعرية تعجبني ثم ت\ور الحال إلى قصائد أنقلها من سفينة العم حسين بن علي عبد القادر وكان العم حسين شاعرا أدبيا والسفينة تعني الديوان فكنت أنقل ما استحليه إلى سفينتي وأظل أقرأ وأدون حتى ساعة متأخرة من الليل. ذات ليلة وبينما كنت منكبة على نقل بعض القصائد في مجلدي وقد نام الجميع وأطفأت الانوار وخيمت الظلمة على كل الغرف فيما عدا غرفتي ينبعث منها شعاع نور ترسله إلى الحوش فإذا بقرع على باب غرفتي واستفسرت عن القادم في هذه الساعة المتأخرة من الليل فإذا به أخي الحسين يرحمه الله يحمل معه أوراقا مهمة إلى الإمام بقصد اعطائي الاوراق لتسليمها للوالد في الصباح وكانت هذه عادته وكثيرا ما يراني أنقل وأنقل. في البادية سايرني ولما تكررت الحكاية قال لي:" أليس من الخسارة ضياع الوقت في مثل هذا الاجدر بك نسخ شيء مما ينفعك. وعمد إلى سفينتي ووضعها في خزانة لي كانت في الحائط واحكم اغلاقها واخذ المفتاح معه وكنت أنظر إليه متألمة واعترتني الوحشة مرات عديدة طلبت المفتاح من أخي ولكن دون جدوى. ومضت أسابيع وحنيني يزداد إلى سفينتي ولا أمل بعودة المفتاح الي وفك قيد سفينتي فناديت ابن أختي محمد عبد الرحمن الشامي ليساعدني في كسر باب الخزانة غمرتني حالة عجيبة من تأنيب الضمير فهرعت إلى أخي الحسين وكان في مسجد دار الشكر عند والدته امنا الفاضلة حورية رحمها الله واخبرته بما فعلت وبما اقدمت عليه وبان ندمي على وجهي فما كان منه إلا أن تبسم برقته المعهودة ولم يعلق وهو ما دفعني إلى نسخ الصحيفة السجادية بخط جميل وبعناية وأطرت كل صفحة منها باللون الاحمر وانتظرت وجوده في الحديقة وذهبت إليه وسلمته اياها. وكان سروره واضحا وأحاطني بذراعيه وقال لي:" سألزم بحبكم وأحتفظ بها لنفسي كأعز شيء عندي" عدت إلى سفينتي مطمئنة قريرة العين والبال انقل الاشعار تطريني الكلمة البليغة ويهزني الاحساس الانساني بكل عمق. وحتى لا اشعر بالملل كان أخواني الحسين وعلي والقاسم يدعونني لزيارتهم في منازلهم لتغيير الجو فأقضي عند كل واحد منهم اياما في بيته وكانت لزيارتي لبيت أخي علي مذاقا خاصا فأسمع منه أبياتا من ااشعر أو قصائد والتعرف إلى الصور الرائعة والمشاعر الانسانية الراقية التي يبثها في قصائده فتمس بطلاوتها وحلاوتها وجداني وقلبي وعواطفي فما شعرت إلا بالسعادة انسة, ومحبة أليفة وعندي ما يشغلني ويملأ علي أوقات فراغي.
ومما في السفينة..
نفثة المصدور وهي قصيدة جاءت في 84 بيت
أما دأب من أقفاه بالشر قومه مخافة وصل أو مسرة مقدم
على أن حتف المرء آت ومن يمت كريما سليم العرض بالموت يغنم
وليس سواء هالك حتف انفه صغارا وحرٌ مات ميتة ضيغم
عداني لوم يا ابنة القوم انني واياك دقوا بيننا عطر منشم
أولئك قوم من يطعهم يعنهم عليه ومن يخبر اولئك يعلم
فلا تحسني ظنا بمن تجهلينه فمن لا يسئه بادىء الامر يندم
حذاريك لا تشقي بهم في ديارهم يضلوك مكرا بين نور وغيهم
فما كل من يبدي الصداقة مضمرا لها قلبه فالقلب لم يتكلم
أذلك جهل ام تجاهل عارف، دواليك من يستبهم الامر يبهم
فهلا سألت الركب حتى تعنفي، فما كل مسؤول سألت بأبكم
كلانا مصاب صائب الرأي انما ، غررنا ومن لا يدفع الاثم يأثم
وحيهلا بالغار لولا ظننته، يعود قليل الخير شر التكلم
أكرر طرفي كرتين لأصطفي، خليلا يصافيني عن القلب والفم
ولما أجد كفؤا أكافيه انما، رأيت الصفا في الناس طول التبسم
ولم ار إلا ضاحكا عند كربتي، وآخر عن نهج الصنيعة قد عمي
ولا بعيدا خالي الود والقلى، والا قريبا صامتا صمت أعجم
والا عدوا خافق القلب ليته، سطى فيريني أو يرى أم قشعم
والا مهيبا دأبه البغي في الحمى، ومن يبغ لا يمنع ومن يرع يحتمي
أأفصح من لا تعرف القوم لحنه ، أم استبسل اليعفور تلقاء ضرغم
أم استنصح المعتوه شهم حلا حل ، أم استنصر الرعد ذو قوة كمي
أم استعظم المغمور ذو شرفسمى، ومن لا يحقر ذا الحقارة يعظم
بلى فكريم القوم منخدع لهم ، ومن لا يخادع خادعيه يخثعم
إلا رب يوم لا تجلى كروبه ، وشجواه لا يجتازها ذو التجشم
ولا سيما يوم نعى الشر خيره ، الي وقد يأتي زمان مكلمي
أرى الدهر يأبى أن يسالم سيدا ، ويأبى مناواة اللئيم المقلم
سطور على الانسان سطرها المدى، متى يأب ما يجري به الدهر يرغم
ومن بيده يوم يغيبه آخر ، وما قدم الحذر أمرؤ لا يقدم
ومن يتوسم كل نوء بديمة، ستكذبه حينا ظنون التوسم
ومن صارع الأحداث قد تنصرع له ، ولكن من لا يقتحمها يقحم
ومن يكتم الاسرار لا يشكه الخفا ، ضرارا ولكن من يذعها يعلقم
ومن يتفوه بالاباطيل يستهن ، ومن لا يصدق فعله القول يشتم
ومن يعم عما جاءه أمسه به ، يضرس بناب لا يخلل هيصم
وأي فتى يبخل طماعا بثروة ، فقد كرم الغزلان في غير مكرم
ومن جد في سير بغير روية، تعثره عن ساق شآبيب أسهم
ومن يطلب الاقصى طليقا ولم يكن ، اطل على الادنى يكبل بأدهم
ومن يشك حر الشمس لاتقه الضنى، عشيرته بل تعم عنه وتصمم
ومن يصنع المعروف فردا لأهله ، يجد ناهضا انصاره غير جثم
وما يرضى يا صاح امرؤ يسخط امرؤ، فلا تأب إلا ما رضيت تحطم
بعيد على الانسان ما كان نابها، يرى عرضه من جانب لم يكلم
فما ولي الناس امرؤ لم تزل به ، قوارص قول من تقي ومجرم
وأقتل ما للمرء منه لسانه، متى دميت أجراحها لا تمرهم
كأني باهل الفرى صفرا اكفها ، وامواهها غورا مفراة أسلم
وان أولي التصداق جم خيورها ، ورية صدق كاسي المرء مطعم
ومن يدمن الكذبان يعرف به ومن ، يكذب يشه وجهها ومن ساه يسأم
ومن نال بعض المال أو فر عرضه ، ورب ندى يزكوبه مال مكرم
ومن ير في مستوقد النار جمرة ، ولا يطفها عما هنينهة تضرم
ومن همه فضل المعيشة لا يجد ، مراغم عز من هوان بدرهم
ومن لا يذر ما تكره الناس تقله، ومن لا يعود نفسه الخير يعدم
ومن ناط أحكام الاخلاء بالعدى ، يجد عينه نضاحة سم أرقم
ومن لا يقف حيث انتهى ضاق رحبه ، ومن يسكن الأرض الوبيئة يحمم
ومن سن خيرا يلق منه جزيله ، ومن سن شرا يجز منه ويذمم
ومن لح في التسئال عما بوده، يسيء كراق للسقوط بسلم
ومن نقب الآبار في الشم تعنه ، وتقصر رشاه أو تظل تتصرم
ومن يكتم الاعداء مساوىء قومه ، تخفه ومن يفشي المساوىء يوقم
ومن يغمد الهندي يعلق به الصدى ، ومن سله تحلمه ابصار نوم
ومن خذلته الناس ينصره جده، ومن عد ماه خاف قول المنجم
ومن دنس الاعراض وهي نقية ، كمن شوه الحسناء بثوب مردم
ومن تره عين الرضا يغتفر له ، وان جرمت أوزاره لا يجرم
ومن ير عين السخط يهلك بما نجى ، به من تراخ غيره أو تقدم
ومن يتهم يصعد إلى الظن وهمه ، بتمويه قال أو حسود ملوم
ومن يرفع الشكوى إلى غير قادر ، تهنه الاعادي بالمطال ويفحم
ومن يرج أن لا يستهان ينط عرا ، بأعمال وال من محل ومحرم
خليفة طه انصر الخلق للهدى ، بشرذمة من حزبه وبلملم
همام بصير بالأمور محنك ، كريم السجايا أمجد الناس اكرم
وذاك أمير المؤمنين وجدته ، على منجد منا عطوفا ومتهم
تزود لصرف لدهر محض ولائه، فتسعا لمن ناواه في المال والدم
بكفيه لا تنفك نصية القضا، ليأتينه ما شاء غير مهلمم
تعافى من الادواء شرع الهدى به ، ومن طبه هذا الخليفة يسلم
نفى النبل عنه لو ولولا وليته، كما نفت الارياححبات سمسم
فمن يلتمسها لا يجد بعد لامها، سوى ألف للمبغضين كلهذم
وما دأبه إلا اقالة عاثر، وتفريج كربات ونول ميسم
ومن يك هذا شأنه تنجه العلى ، وترفعه مجدا عن سماء وأنجم
توغل في التوقى فلم يخش في القضا، سوى الله مهما يقضي بالحق يجزم
له الشرف العالي السماء غير أنه، حميد بما يأتيه غير مذمم
اليك أمير المؤمنين توجهت، شكاية مصدور لك الخير وأسلم
فدونك مصفودا رماه زمانه ، جزاء وفاقا ما به من تهكم
انخت ركابي دون بابك سيدي واني إلى أحضان عفوك مرتمي
أقل عثرتي يا سيد الناس انني عثرت فمن نالته رحماك يرحم
لتقبل متابي أو ليكذب تظنني بأنك عفاء وبؤت بمأتمي
متابا نصوحا لا اغتفالا وخدعة كما يعلم الرحمن مني فاعلم
ودم في نعيم رافعا علم الهدى لك الفتح والـتأييد في كل مقدم
أعاذك من مكروه أولاك ربنا وأخراك ممتنا عليك بأنعم
وصلى بتسليم الرضاء متخننا عليك بتبريك الثانء والترحم
ولما كنت وما زلت كلفة بالشعر وفنونه وأكثر من مطالعته تطربني الكلمة البليغة ويهزني الاحساس الانساني العميق فاني أسمح لنفسي بنشر قصيدة للقاضي محمد بن محمود الزبيري لما فيها من حسن الديباجة وطلاق الانسجام وسلامة الذوق في الانتقاء وبلاغة الاسلوب كان قد بعث بها القاضي الزبيري من سجن المشبك بالاهنوم في عام 1361 هـــــــــ\ 1942 م حيث أمر الإمام بسجنه وفيها ينوه بمناقب الإمام وفضله.
وكانت قصيدته معارضة لقصيدة الزبيري التي قال في مطلعها:
قلب الجزيرة في يمينك يخفق وسنى العروبة في جبينك يشرق
التي مدح فيها الملك عبد العزيز رحمه الله وقصيدة الزبيري صادقة العاطفة فيها من البلاغة ما دفعني لأسجلها في سفينتي وهي كما قالها رحمه الله بدون اعتوار بالحذف والاضافة ولا تقولا لم يقله.
نور النبوة من جبينك يلمع والملك فيك إلى الرسالة يترع
يا أيها المحسود في عليائه لا تخشى سبقا أن شأوك أرفع
يكفيك أن المصطفى لك والد أفضت اليك به القبائل أجمع
يكفيك أن الدين وهو مشرد من سائر القطار نحوك يفزع
لا غرو إذ تحميه فهو أمانة من جدكم في عرشكم مستودع
يكفيك أن الشعب حولك قائم يحنو عليك ويرتجيك ويخضع
دانت لعرشك أمة يمنية يسمو بها عاد ويفتخر تبع
من أين ياتيك العدو وانت في أرض تكاد صخورها تتشيع
يا ابن النبوة أين نذهب عنكم والغرب منتظر لنا يتطلع
تالله لو حادا امرؤ عن امركم لم يأوه إلا التفرنج موضع
ما للعباد سواك إلا فتنة عمياء أو كفر يضر ويصرع
من ذا الذي يرضى بعلج كافر في عرش آل المصطفى يترفع
وولي عهدك منك أشرف بضعة أسد ليوث الغاب منه تروع
أودعته سر الخلافة فانبرى وشذاك من أردانه يتضوع
صديت عنا الغرب وهو شاخص متحضر حتى يراك فيرجع
فشلت سياسته وخاب رهانه لما رآك وفيك ما لا يخدع
قد كان يرجو أن تكون فريسة فرآك ليثا في الفريسة تطمع
لم تغن عنه ثقافة عصرية في حين أغنى عنك قلب أروع
علم الكتاب وأنت غاية سره أغناك عما زلفوا وتصنعوا
والدين أسمى فطرة وعقيدة مما يرى المتمدن المتنطع
أن التمدن خلة فتانة وأخالها عما قليل تقشع
ولرب أفاك يظن بجهله أن السماء بجهله تتضعضع
يسعى ليفسد في البلاد كأنه ابليس في ظلماته يتسكع
يلقي لجاجة ظلمه من قلبه فيخال نور الشمس منها يترع
ويحرك القلم المهين مؤملا أن الجبال لوقعه تتزعزع
عجبا له يعتد تعلب فكره والاسد تزأر والصوارم تلمع
يهذي ليصنع للضلالة دولة والدين يبصر والخليفة يسمع
يتوعد الدنيا وليس له بها إلا خيال هارب متقنع
ما زال يؤذي الناس في تضليله ويظنهم عجبوا به واستمعوا
أن الذباب وان أجاد طنينه مستكره يصطك منه المسمع
والمبطلون وان تعاظم مكرهم فالصدق أغلب والحقيقة أنصع
وأنظر خداع بني أمية إذ غدت ترمي عليا بالضلال وتقذع
زعمت له الاهواء أن مقامه بين المنابر قديهان ويوضع
فإذا المنابر كالمعارج يرتقي فيها الرجاء إلى السماء ويرفع
عطفا أمير المؤمنين فاننا جئنا اليك من الشدائد نفزع
أعرضت عنا لحظة فتحولت عنا وجوه الخلق بعدك أجمع
لم يفحصوا عن امرنا بل احدثوا قصصا بمحض خيالهم وتبرعوا
يا من نلوذ بحلمه من سخطه واليه منه نستجير ونفزع
أنا لنعرف منك صدرا واسعا يأوي اليك المذنب المسترجع
ما ضاق صدرك عن اناس أشعلوا نار الحروب وناصبوك وأقطعوا
لما ظفرت بهم عطفت عليهم حتى كأنهم بنوك الرضع
هذي خلائقك التي أضحى لها في صفحة التاريخ نور يصدع
ما بالنا دون الورى لم نلق ما كنا نؤمله وما يتوقع
حتى إذا جئناك نطلب نفحة عرضت علينا منك ريح زعزع
أفتترك النقمات فيها وحدنا والشعب أجمع في نعيمك يرتع
رحلوا ابنا منذ الصباح ولم نكن ندري أرحلة سائح أم مصرع
عرضت لنا تلك المطي كأنهم نعش يؤم بنا المقابر يسرع
وتهافت الناس الجميع كأنهم نظروا جنازة ميت لا يرجع
يتخاوضون بأعين مذعورة تتجرع البلوى كما نتجرع
وأنت مواكب أهلنا لتردنا بنحيبها عما إليه نزمع
تبكي وتنشدنا الاناة ونبتغي إلا نسير ونستغيث ونضرع
جاؤا حيارى خائفين وما لهم ذنب وقد يخشى البريء ويجزع
يبكون حيث دموعهم مردودة حراء وحيث بكاؤهم لا ينفع
قلنا لهم أنا لنأسف إذ نرى أكبادهم من اجلنا تتقطع
فاسعوا إلى المولى الإمام لعله يحنو على هذي القلوب ويخشع
صبوا المدامع تحت ظل جناحه أن الحنان إلى المدامع يسرع
وتحملوا معكم صغارا رضعا فعساه تعطفه الصغار الرضع
وتشفعوا بنحيبهم ودموعهم أن المدامع خير من يتشفع
رحماك يا غوث اللهيف فان سا عات العذاب طويلة لا تقلع
اليوم ثاو بيننا لا ينقضي والليل منقطع السرى لا يرجع
والهم يضرم في الجوانح زفرة تتقطع الاحشاء ولا يتقطع
ما أضيق الدنيا على ذي كربة حتى يرى أن المقابر أوسع
ما بين أحشائي تأجج في الدجى فكأنما للنار فيها منبع
وكأن هذا الكون أصبح شعلة والسجن قدر فوقه يتلذع
وعبيدكم لحم وعظم قد غدا في ذلك القدر المسجر يوضع
هذا قوافينا اليك منيبة يعنولها غضب الإمام فتضرع
ليست من القول الهراء وانما هي مهجة ملفوظة تتصدع
جفت مدامعنا وغاض شعورنا والشعر في بعض المواضع أدمع
دع لي بقية مهجة أحيا بها أن لأرضى بالحياة فأقنع
دع لي لسانا عن جنابك ذائدا أو لا فعبد من عبيدك طيع
صلى عليك الله بعد محمد ما زال شعبك في نعيمك يرتع
لا زلت يا عرش الهدى بدرا ولا زال الهدى في عرشكم يترعرع
عذرا أن كنت قد أسهبت في الشعر وفنونه فللشعر علي سلطان لا حيلة لي في مقاومة صدق انسيابه انه يسكنني وتوطن في فكري وعاطفتي والفرع من معدنه لا يستنكر
وذات يوم وكنت في منزل أخي القاسم وصل أخي الحسين بأمر من الإمام وعرض علي برقية مرسلة من زوجي الغائب منذ تسع سنوات بحجة الداراسة التي طال امدها في مصر وجاء في البرقية:
" إلى مولانا الإمام, وصلت عدن وسأتوجه إلى تعز لزيارة ولي العهد ثم إلى صنعاء كان ذلك في احد الشهور سنة 1366 هـ\ أو سنة 1947م, وقرأتها ونظرت إلى أخي الحسين وقلت لأخي الحسين اني قد استلمت برقية مماثلة مرسلة الي".
قال: يتوجب عليك العودة إلى دار الشكر ولم يزد أخي الحسين ولم يعلق وصدعت لما أمرت وعدت إلى دار الشكر وهناك استدعاني الإمام وأبلغني: عليك أن تذهبي إلى منزل زوجك لملاقاته. فرفضت بكل اصرار فألح علي الإمام مذكرا اياي بالواجبات الشرعية. فقلت له: أرجوك يا والدي أن تترك الخيار لي وهو من حقي بعد غيابه طوال هذه السنوات التسع, بايحاءة مني أن من حقي الفراق بعد الغياب بثلاث سنوات واستدركت:
يا والدي: أن المنزل ليس بخال من أحد لملاقاته هناك خالته زوجة الأمير الكبير العم علي وأخته ابنتها أم هانىء والمنزل ليس قفرا فهو مأهول بأهله وما ضر تأخري أسبوعا مقابل تسع سنوات ، فسكت والدي وقد أدرك أني لا بد مجيبة لطلبه ، ولكن بعد أيام. وحين وصل زوجي إلى صنعاء وبعد ثلاثة أيام ومن منزله بدار الصياد ارسل لي رسالة بخطه يخبرني فيها بوصوله صنعاء ومتى يزور الإمام. وكان الوقت عصرا والإمام في ديوان الشكر بين وزرائه وديوانه وحاشيته فبعثت الرسالة إلى والدي فأمرني والدي الإمام بالرد عليه فورا ، وأن يصل الآن وأرسلت الجواب مع السائق. وما هي إلا سويعات وبادر زوجي بزيارة الإمام ثم طلع الينا مع أولاد أختي الولدين محمد وعبد الكريم أبناء عبد القدوس رحمهم الله ، ورأى ابنته ذات التسع سنوات للمرة الأولى وليعذرني القارىء من وصف حالتي وحال ابنتي التي ما رأت أباها طوال هذه المدة فالمقام يجل عن المقال.
ثم ما لبث أن سألني : متى ستشرفون بيتكم؟
قلت: قريبا إن شاء الله تعالى
وظل يداوم على زيارتنا كل يوم عله ينجح في إزالة ما تراكم على النفس والقلب من صدى وألم. وفي إحدى الليالي وبينما هو خارج من عندنا بعد جلسة مع أخي يحيى وفي حوش دار الشكر اصابه نزيف من منخره وفمه ، فقال لأولاد أختي: لا تخبروا خالتكم وذهب رأسا إلى الطبيب فأشار عليه الطبيب العودة إلى دار الشكر حيث كان هناك غرفة مجهزة ومعقمة. فأرسل الي الأثر هو ما عرفناه "مرض السل". عرضت الورقة على والدي فاهتم به جدا ونادى من كان موجودا من الأولاد وهو يقول: قولوا للسائق فورا يوصل الولد عبد الله ومعه الدكتور. وانتظرناه وبقي أخوتي يحيى والمحسن منتظرين وصوله في الحوش ، ووصل بحالة إعياء فلما فحصه الطبيب ألزمه بالاستلقاء وعدم الحركة فأوصلوه إلى غرفتي وأبلغني أخوتي أن الطبيب كان يعتقد أن النزيف من البلعوم وبعد الفحص وجد البلعوم سليما وبقينا أنا وأخوتي ساهرين وبقي لدينا ثلاثة أو أربعة ايام والأطباء يترددون عليه والزوار من آل الوزير يتقاطرون وغيرهم كثير ثم سمح له الأطباء بالخروج للكشف على صدره فقال لي: طالما اني سأخرج ولأن والدي سيصل من المحويت فسأدخل إلى منزلنا في دار الصياد وذهب.
عودة الوئام
ووصل والده وتحتم علي اللحاق به كي أسهر عليه وأواصل عنايته به والدكتور زيني الجراح الإيطالي وغيره من الأطباء مهتمون بعلاجه ، إلا أن الطبيب زيني وكان قد استأصل من جسدي الزائدة بعث إلي تحذيرا مع أخي يحيى بأن أحاذر على نفسي وعلى ابنتي من العدوى ، لأن زوجي مريض بالصدر أي السل وحين سمعت هذا التحذير ورأى أخي تغير ملامحي قال: أن عبد الله يتماثل إلى الشفاء فالأطباء يبذلون قصارى جهدهم في علاجه. هذا ما وقع وهي شهادة اسأل عنها يوم القيامة ، ولا أدري من كان وراء الإشاعات التي مفادها بأن أخوتي دسوا له السم في الشراب وهو في دار الشكر. إنها أوهام لا صحة لها فالجميع يعرف وبفضل لطف الله تحسنت صحته ومارس عمله كمدير لشركة التجارة والصناعة والرزاعة والنقل المساهمة وبدأت العمل في 21 رمضان 1366 هـــ ومنحت الشركة امتياز استيراد وبيع الكاز والسكر لمدة ثلاث سنوات على شرط أن يكون في ذلك مصلحة للمستهلكين ، وألا يزيد الربح عن عشرين بالمئة. واطلب إلى قراء ذكرياتي الاطلاع على قانون إنشاء الشركة اليمينة للتجارة والصناعة والزراعة والنقل المطبوع في كتاب الواسعي تاريخ اليمن 370-371 ليدركوا بأن والدي كان حريصا على المستهلكين أولا وأخيرا ، وكان حريصا على أمور الإدارة والمراقبة حفظا على حقوق المساهمين , ثم أخيرا كما جاء في القانون: لا بأس إذا رغب في القطر المساهمة فلا بأس بدخولهم في ذلك بقدر نسبة عددهم بشرط حسن السلوك والمعاملة. كان والدي يريد للشركة كما قدموها له محمد سالم المصري والفضيل الورتلاني الجزائري وعبد الله بن علي الوزير وغيرهم النهوض بالزراعة والصناعة والنقل والتجارة في اليمن ، وتطوير الاقتصاد اليمني وعرفنا فيما بعد أنها كانت غطاءً لتنفيذ مؤامرة اغتيال الوالد الإمام رحمه الله.
وقد قال لي عبد الله أنه يشتكي من حسرتين .. الحسرة الأولى ابنة زوجي كنت حزينة لفراقها في غيابه الطويل في مصر تزوجت وفي غيابه امتحنت بمرض الاثر السل وماتت وما درى عن أمرها شيئا.
فقلت: يرحمها الله, هي الآجال ولكني ما قصرت في رعايتها وتربيتها إذ كنت اعتبرتها كابنتي تماما
قال: أدري , وأعلم مدى حرصك.
والحسرة الثانية: طلاق الأخت فاطمة من العم عبد الله بن أحمد الوزير ، وكان زوجي يكن لها محبة وتقديرا وصداقة, وأول معرفتي بها عندما عبرنا الحديدة في طريقنا إلى تعز ، وكانت فاطمة طيبة خفيفة الظل وقلت له: هي إرادة الله وإذا لم تسر الحياة كما أمر الله بالود والرحمة فلا بد إذا من أبغض الحلال عند الله وسكت. لم أكن مقتنعة بها ففقدان الولد أو البنت يستحيل أن يساوي واقعة طلاق أو انفصال لا سيما وأن نسبة الطلاق والانفصال وتعدد الزوجات ووفيات الأزواج والزوجات مرتفعة في مجتمعنا اليمني وذهب فكري بعيدا وتوجست ، لعله كان يحاول الإيحاء لي بأن الود بينه وبين عمه عبد الله بن أحمد الوزير ليس على ما يرام ، لا سيما وكانت هناك بعض الحساسيات بين العم عبد الله بن أحمد الوزير وبعضا من أخواني فأضمرتها عندي. وعاد عمي الأمير الكبير علي بن عبد الله الوزير إلى المحويت بعد شفاء زوجي ، وبعد شهرين توفيت إحدى زوجات الأمير الكبير بنفس داء السل الملعون الذي استفحل اثره بين أسرة العم الأمير الكبير. وانتقلت صداقتي إلى ابنتها أم هاني وكانت طيبة ورفيقة الدرب فيما بعد ، واستأنفت الحياة راضية وبصراحة فقد حرص زوجي على توفير كافة أسباب الراحة لي ، وبذل كل اهتمامه من أجل إرضائي حتى أنه كان يرتب غرفتي بنفسه ويعتني بنظافتها ويتحرى عن مأكولي وشرابي وإن أُصبت بوعكة صحية أقام الدنيا وأقعدها ، ويصاب بحالة من القلق حتى يمن الله علي بالشفاء. وكنت أقول: الغربة علمته كيفية مساعدة الزوجة كنت أرى في تصرفاته وجميل كلامه نوعا من التعويض عن سنوات غيابه والتي نسجت بلا شك حجبا على علاقتنا ، سيما ولا أعلم سببا لهذا الفراق أو الغياب ، فلم يبدر مني ما يحمله على الهجر وكل ما كان يصلني عبارة عن رسالة واحدة تصل كل سنة ، أو رسالتين على أبعد تقدير ، وكنت في حينها اعرضها فورا على والدي. صحيح, قد يعرض للمرء شوائب من نكد الحياة وتترك في النفس بعض التأثير والنفس تفعل بذاتها من غير حاجة للبدن ، ولكن عقلي مضيء بما أفاء الله علي من نعم التوازن ، فحاولت اقناع نفسي بمعادلة مقنعة تعينني على تفسير سبب غيابه ، ورضيت بقوله انه كان يدرس في مصر. كانت وقفة مع النفس والضمير والصدق أقرب ما يكون إلى العقل.
الفاجعة والخطب الجلل
أمضيت أياما وليالي في بيت زوجي أداري الصمت وأحرص على عدم مناقشته في سبب غيبته لخوفي من إثارة مرضه وإمعانا في التغاضي وتجاوز الماضي كثفت له الرعاية أختار له الأطعمة المغذية والأشربة المقوية وأذكره بالأدوية في مواعيدها فهذا المرض اللعين لا يقهره إلا التغذية الجيدة والراحة النفسية والهواء النقي . غدوت ممرضته دون أن أتعلم التمريض إلا بالممارسة وطردت أحاسيس وهواجس غيابه إلى الأبد أو هكذا تخيلت. ولما عوفي تماما وقد طالت ملازمتي البيت للعناية بزوجي أستاذنت في زيارة الولد الإمام ووافق. وكان والدي آنذاك مقيما في دار الشكر وبعد تفضل الوالد باستقبالي والاستفسار عن صحة زوجي وأحوالي معه واطمئنانه أن كل شيء على ما يرام. قلت للوالد الإمام: اليوم يطيب لي أن اتأخر عندكم وأبيت مع أخواتي وأمهاتي وأخواني. فأجاب الوالد: هل قد أستاذنت من زوجك؟.
قلت : لا ولكني سأكتب إليه مؤاذنة ولا أعتقد أنه سيرفض المبيت طرفكم ليلة واحدة.
فقال الوالد: لا يحسن ولكن الأسبوع القادم إن شاء الله ويكون زوجك قد أذن لك من بيتك فيا مرحبا. وما كان لي أن أزيد في النقاش ولكني شعرت بحالة من الانقباض وودعت والدي وكان الوداع الأخير ويا حسرتاه عدت إلى بيت زوجي وقد مر علينا حتى الآن تسعة أشهر منذ عودته . وليلة 7-4-1367 هــــ الموافق 17 فبراير 1948م جائتني الطباخة وكنت برفقة أم هاني فسألتني الطباخة وقالت: في ديوان سيدي عبد الله رجال هل أبعث لهم العشاء أو القهوة؟
قلت: مهلا, لا أدري دعينا ننتظر حتى أسأل صاحب البيت (زوجي عبد الله).
وكان الاتصال به وجاء إلي وقال: لا ترسلوا شيئا فلا يوجد أحد عندي ، أنا لوحدي في الديوان قالها بارتباك وتلعثم وبدا التوتر ظاهرا على وجهه وكان في عجلة من أمره شارد الذهن كأنما يفكر بأمر خطير ولما كان الصدر خزانه تودع فيه من الأمور خيرها وشرها وانتابتني أنا واخته أم هاني حيرة في سبب توتره وعجلته وشرود ذهنه وبالاستقصاء عرفنا أن العم محمد بن علي الوزير كان واحدا من الموجودين في الديوان فزادت حيرتي وقلقي فالعم محمد بن علي الوزير كان فارا في الجنوب وتساءلت: كيف عاد العم محمد بن علي وما سبب عودته , هل يعلم والدي وأخوتي بخبر عودته. وأجبت نفسي: لعل والدي كتب إليه يرجوه العودة وعفا الله عما سلف فوالدي يرحمه الله كان متسامحا عطوفا نفسه كبيرة وكثيرا ما يعفو ويسامح فرضى الله هو مطلبه وبغيته لا يظلمن احدا من رعيته فكيف بآله وأقربائه. وتزاحمت الاسئلة والاستفسارات على ذهني: إذا كان الامر وفق ما حدثت به نفسي عاد من عدن إلى صنعاء والعود أحمد ترى لماذا كان اللقاء في سريا ومكتوما؟ لماذا أخفى عني زوجي وجود الرجال عنده؟ فلولا التفاتة من الطباخة والخادمة لما عرفت شيئا. وطرقتني المخاوف وعادت صورة موقفه معي عند سفره بحجة اداء فريضة الحج وما قاله وهو يودعني تهز فكري بعنف فقد ثبت زيف كل ما قاله حينها تسع سنوات غياب بسبب الدراسة وما حدثني في الشهور التسعة التي قضيناها في وئام عن مدرس أعجب به ولا عن شيخ درس عليه ، ولا عن درس في الفقه أو الشريعة أو الأصول ولا عن أديب ولا شاعر وهو يعرف مدى تعلقي بالأدب والشعر. ولا عن شهادة نالها ولا مرتبة علمية ارتقى إليها ولا اجازة صيفية قضاها فعاد كما سافر.
صدمت ذهني فكرة:
أن وراء الاكمة ما وراءها ولكن أنى لامرأة يمنية أن تسأل أو تتدخل أو تشير إلى ما يجري في مجالس الرجال ولولا ارتباكه وعدم قناعتي بموجبات عودة العم محمد بن علي الوزير وكذب زوجي علي فلقد رأت الطباخة والخدم والرجال في الديوان وكأنهم فيه يعقدون اجتماعا وشاط ذهني إلى احتمال آخر.
قلت: لعلهم يخططون لرحلة جديدة مكتومة وطار صوابي ولكني تمالكت ولما عاد الينا أنا وأخته أم هاني وأمامها سألته: ما الأمر؟ مالي أراك في عجلة؟ أحوالك لا تريحني.
وقلت له: بكل حزم وغضب: اكتب ما أمليه عليك وناولته قلما وورقة وأمليت وكتب بخطه: إذا سافرت بدون علم زوجتي فهي طالق.
تردد قليلا ثم كتبها وحاول الخروج بسرعة والورقة بيده يمزقها ويعمل على ترضيتي بكلمات معسولة فاعترضت طريقه كالسد وطلبت منه وبكل عناد وأنه لن يخرج من هنا قبل كتابة ما أمليت عليه مهما كانت العواقب وأدرك أن الموقف جد ولا هزل فيه وكلماته وترضياته ذهبت هباء" فأطرق فترة ولم ينبس بنت شفة, وأمسك القلم والورقة مرة أخرى وكتب بخطه ما أمليته عليه وانطلق مسرعا كالسهم الرائش نحو الهدف. أما أنا فقد امضيت الليل مع أخته حتى السحور ومن ثم انصرفت كل واحدة إلى غرفة نومها ولما كنا صياما في ذلك اليوم ومن عادتنا إلا نستيقظ إلا بعد الظهر.
الخبر المفجع:
فاستيقظت من نومي بعد الظهر وشعرت أن الدنيا من حولي ساكنة فلا أسمع ضجيجا ولا أصواتا في الشوارع ، هدوء تام ، رهبة السكون سيطرت على كل ما حولي فقمت إلى النوافذ لعلي أرى شيئا فرأيت خلقا يتراكضون وبشرا يتهامسون ، وغيرهم يسرعون الخطا دون الالتفات إلى أحد فسألت أحدهم: ماذا هناك؟ ماذا جرى؟
فرد أحدهم بكلمات سريعة: تروني عندكم لا علم لي بشيء. فبعثت رسولا إلى أختي زوج الوالد عبد الرحمن الشامي مستفسرة عن الأخبار وبعد فترة عاد الرسول الي وعلامات القلق بادية عليه والدموع تسيل من عينيه كان في حالة من الاضطراب والأسف وناولني ورقة: كتب عليها: " تذرعي بالصبر لقد قتل الإمام وقتل أخوتنا الحسين ويحيى والمحسن والطفل الحسين بن أخينا الحسن. خبر أذاب نفسي ومصاب شب النار بين ضلوعي ولا داعي لوصف حالتي فالقلب قد انفطر وما عقلت إلا وأنا بين عبرة وأنة وحسرة وجماعة يقطرون في فمي شراب الليمون وزوجي يبكي بكاء مرا ، ومثله غيره وكلما رآني زوجي انتحب وقد بلغ الحزن مني أقصاه ، أراه يعاود البكاء بلوعة وحسرة ولكني أجهش في بكاء لهيبه يحرق الأكباد وأحزاني تحاصرني وتعصف بي أتأمل في هول الكارثة وأتساءل:
هل يستحق هذا الإمام الذي جاهد طوال حياته لانتزاع استقلال اليمن وحريته من بين أنياب ومخالب القوى الطامعة التي استعمرت معظم البلدان العربية والاسلامية القتل ؟ كان همه العدل بين رعيته دون سواه خدم شعبه في الليل والنهار بهمة لا يقدر عليها أقوى الشباب حتى في حالات مرضه كان ينزل متكئا على شخصين ليجلس على كرسي أو في ظل بناية أو شجرة حتى يتمكن المظلومون من مقابلته دون حجاب ، بابه مفتوح واتصاله مع الرعية كان مباشرا يستمع ويقرأ شكاوى الناس من الأمراء والعمال والحكام والجباة إن ظلموا أو فسدوا أو تجبروا ، وكان يؤشر بعلامته للتو والساعة ويأمر بحلها فورا وينفذ من يتولى مراقبة اعمالها فورا ودون إبطاء ، ما عدا يوم الجمعة فيذهب فيه للصلاة. ثم ما ذنب هذا الإمام التقي الورع وقد جاوز الثمانين حتى يقتل ؟ وما الذنب الذي اقترفه أخي الحسين؟ ذلك العلامة الفاضل الزاهد المجتهد فقد عرفته اليمن مخلصا مدافعا عن سيادة وحرية اليمن في المحافل الدولية. وكان أخي الحسين محبوبا من أبناء الشعب اليمني وله شعبيته عند كافة الناس أمل مرتجى لليمن.
ثم يأتي سبب يقتل أخي المحسن الشاب التقي الورع من كان ورعه وحسن أخلاقه وأدبه حديث مجالس أهل اليمن. ثم يا لوعتاه على ذلك الطفل البريء كان في زهرة الطفولة فقد وجدوه مقتولا والدم ينزف من جسده الوردي البريء وجده الإمام جاثيا وقد ضمه بين حجره ويديه وانكفأ على جسده ليحميه من رصاص الغادرين المجرمين مزق الرصاص جسد الجد والحفيد وهما متعانقان رحمهم الله جميعا . وعلمت أن أخي يحيى قد نجاه الله بأعجوبة فحين أطلقوا عليه وابل الرصاص طرح نفسه أرضا متظاهرا أنه مات وفارق الحياة وأعمى الله بصائر الجناة المجرمين فتركوه على اعتبار أنه جثة هامدة وبعد أن انصرفوا تحامل على جراحه ونهض والتجأ إلى أحد البيوت. لن أنساك يا يوم السابع من شهر ربيع الآخر سنة 1364هـــ السابع عشر من فبراير 1948م كان يوما أحمرا أسودا نزفت فيه دماء هي دماء والدي وأخواني وولد أخي ، هي دماء قانية حمراء طاهرة امتزجت بتراب الوطن الذي بنى عليه الإمام دولته اليمنية المستقلة الحديثة. واتشحت أجواء صنعاء بالسواد حزنا على الشهداء . إني أحمل معي آلامي وشهادتي هذه لأسأل عنها يوم الحساب فإلى الله وحده الملتجأ وإليه المصير. وبقي السؤال الكبير من قتل الإمام والأخوة والحفيد, في اليوم التالي قلت لزوجي : أريد الذهاب إلى دار الشكر أو إلى دار السعادة لأكون بين أسرتي نعزي بعضنا بعضا نتجابر ونتصابر فكان جوابه: أن هذا لا يتم إلا بأمر من عمي عبد الله الوزير أو بأمر من الرئيس جمال جميل العراقي. فسكتت على مضض وبدأت الأفكار تتوارد وأرسلت نظري بعيدا أحاول إدراك ما أصاب أسرتي. ترى لماذا يمنعوني من الوصول إلى بيوت أهلي. ماذا جرى لساكني دار الشكر ودار السعادة.
هل باقي أخوتي على قيد الحياة أم أنهم يرسفون في قيود الاعتقال. من كان وراء التآمر على أسرتي. هل يعقل أن عمي عبد الله الوزير, وقد قيل لي أنه تولى الإمامة خلفا لوالدي يحول دول وصولي إلى بيوت أسرتي من هو هذا جمال جميل حتى يتحكم بنساء آل بيت فيمنعهن من الحركة ويلزمهن بألا يعرفن من أمر أهلهن شيئا وأومأت برأسي إلى الأرض وقلبت النظر بالواقف أمامي زوجي وحدثت نفسي:
ترى لعل هذا الواقف أمامي هو من ابتكر هذه الحيلة والفرية ليمنعني من معرفة ما حصل لأسرتي. ولم يكن أمامي سوى الانكفاء والانعزال وجمعت نفسي على نفسي وطلبت منهم إطفاء الأنوار وسحب كبس النور الكهربائي من حجرتي وأن يمنعوا دخول أحد إلي ، لا من الزوار ولا من المعزين فإني لا أريد رؤية أحد ما عدا أختي والدة محمد زبارة فقد شددت على ضرورة استدعائها لتكون مرافقتي ، وفي غمرة التيه دخلت إحدى النسوة وخاطبت بصوت مرتفع:" مسكين علوس قد صيره خذابل". والخذابل تعني النفايات ، كلماتها المسمومة الشامتة استفزتني وكتمت غيظي ولم أجب على كلمات تلك المرأة .ووصلت ابنة أختي وظلت عندي أربعة أيام ثم تركتني لأن أولادها تعبوا بسبب غيابها عنهم. ووصل عمي الأمير الكبير من المحويت بحالة سيئة أو هكذا ظهر لي وسمعت أنهم اقترحوا عليه أن يطلع لتعزيتي وكان جوابه:" وبأي لسان أعزيها", ولكنه صعد إلى غرفتي ووقف أمامي دون أن يجلس وقال وكأنه خطيب:
أعزيكم وأعزي الشعب بأكمله ، وحاول تهدئة روعي وأسمعني كلاما ما حفظت منه عبارة واحدة ، أما زوجي عبد الله فقال لوالده على مسمع مني وبصوت عال:
هل تظنوا أن عمي عبد الله بن أحمد الوزير يقدر على حكم شعب اليمن وهو الذي لم يتمكن من العدل حتى بين زوجاته؟ مشيرا إلى طلاق الأخت فاطمة ،كأنه لا يؤيد إمامة العم عبد الله.
قالها وهو يجول بناظره نحوي ، وعلقت على الموقف وقلت: أنا لست في صدد الحكم أو غيره ، أنا أريد معرفة الحقيقة, من قتل الإمام وأولاده وحفيده؟ من الذي نفذ الجريمة؟ ومن هم الذين يقفون وراء المجرمين؟.
ما عرفته فيما بعد عن مؤامرة المجرمين:
كان الإمام رحمه الله في الدورة اليومية المعتادة لمواجهة المتظلمين من الرعية وبعد انتهائها اصطحب رئيس الوزراء عبد الله العمري وأربعة أحفاد وعسكري واحد مرافق وسائق سيارته بقصد تفقد مزرعته في جنوب صنعاء وفي الطريق ترجل ثلاثة من الأحفاد للتنزه وانتظار عودة الإمام وعند سواد حزيز, لاحظ السائق اعتراض كومة احجار في طريق السيارة فنزل العسكري لإزالتها لأنها تعيق السير وما هي لحظة حتى بادرت كمائن كانت قد أعدت وترصد السيارة ومن فيها بإطلاق زخات من الرصاص ومن كل الاتجاهات صوب الإمام ومرافقيه فأصيب الإمام بأكثر من مئة عيار ناري واستقر منها في جسده حوالي خمسين طلقة ووجد مضرجا بالدماء ومنكفيا على وجهه والحفيد الرابع مضطجعا ميتا في أحضان جده ورئيس الوزراء ميتا وقد تشوه وجهه من الطلقات التي أصابته وكذا العسكري والسائق. أما أخوتي الحسين والمحسن فقد تولى قتلهم الرئيس جمال جميل العراقي ، وذلك عند باب قصر دار السعادة ولأن في العمر بقية وباذن الله ورحمته فقد نجا أخي يحيى بأعجوبة. بعد أسبوع من الحادث الأثيم المروع طلبت إخلاء الحمام التركي الكائن بجانب بيت خالي إسماعيل غمضان وأبلغت الخادمة أن تحضر لنا ما يلزم ، وذهبت أنا وابنتي والمساعدة وحال وصولي إلى الحمام طلبت من الحمامية أن تستدعي بنات خالي وعلى أن يصلن برفقتها. ووصلت بنات خالي وأقمنا مأتما في الحمام بكينا حتى أرهقت . عيوننا وقرأنا آيات من القرآن الكريم ومن ثم خرجت إلى بيت خالي وكان خالي وقتها في المسجد وحال وصولنا رمى بين يدي عمامته وقال: هذا جاهي عليكم تبقوا عندنا. وكان جوابي: بشرط لا معزين ولا مؤاسين. فقبل الخال ونادى الحارس وألزمه بمنع كل واصل اياً كان وجهزت حجرة ابنتهم لنا وكانت أسرة خالي ترتدي كلها ثياب الحداد السوداء. وجاءني سائق زوجي يسأل عني من اجل عودتي إلى البيت فقلت لهم : أبلغوه أني في بيت خالي ولا أريد العودة في هذا الوقت. ووصل زوجي مرتبكا مضطربا يسألني: ما الذي يضايقك ويتوسل أن لا أزيد على نفسي ، وكفى تعذيبا لنفسي فإنه القضاء والقدر مصابنا كبير وما علينا إلا الصبر والصبر وحده. كان زوجي متلهفا لسماع أية كلمة مني فقلت له: اني هنا في بيت خالي لاقيت أهلا حزنهم لا يقل عن حزني وتعريضا بالمثل والاستفزاز الذي اسمعوني إياه في بيت ابن الوزير ، كان زوجي يتردد لزيارتنا يوميا وظني أنه كان يترصد أن كنت عرفت شيئا عن الأحداث التي تجري والقتلة فيخمده قبل أن يفشى أمره ، واطمأن بأني لا أعرف شيئا وما بقائي في دار خالي إلا ردة فعل لما سمعته من أقوال استفزتني. كنت اسمع من بيت خالي تراشقا بالرصاص بين جماعات متقاتلة وفي أغلب الأحيان يشتد وفي بعض الأحيان يهدأ وأدركت أن الناس غاضبون لفعلتهم النكراء. في أوائل الأسبوع الثالث لاستشهاد والدي ناداني خالي إسماعيل رحمه الله وانزوى بي في قرنة من البيت حيث لا يسمعه أحد وتلفت يمينا وشمالا الممرات خالية والخدم قد هجعوا واستوثق أننا وحدنا وبصوت منخفض اقترب مني وقال:
سأقول لك سرا مهما لا يمكن أن أقوله لأهلي وبناتي وعليك يا تقية حفظه لأن فيه حياة أو موت. تفتحت أذناي وحدقت عيناي وانتصبت قامتي وتمالكت أنفاسي وكبت أحزاني وقلت:
تفضلوا ولكم الأمان وحفظ السر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
قال: يذاع بين الناس أن المتآمرين على قتل مولانا هم بيت الوزير ، واستنادا إلى مجريات الأحداث فان سيدي عبد الله زوجكم هو من أول المتآمرين ، وهو الذي دبر عملية اغتيال الإمام. أحسست أن الأرض تميد بي وبدني يرتج وكأن زلزالاأمسكني ودوامة بحر خطفتني إلى أعماق الأعماق. أكاد أجن من هول ما سمعت:
زوجي أول المتآمرين على قتل والدي؟ وأعمامي آل الوزير وصل الحقد بهم إلى اجتثاث أسرتي وخيانة تراث الأئمة التاريخي. وبدأت أعيد ترتيب ما حدث معي في الأيام السبعة السابقة ، حينها أدركت سبب سرعة وجود زوجي لدى وصول خبر اغتيال والدي وأخواني والحفيد ، وعرفت فيما بعد أنه كان على سطح منزلنا ينتظر إشارة من المجرمين القتلة تنبىء بأن عملية الاغتيال قد تمت ، وقلت: الله ولي أمري وهو وحده يتولاني. كنت أظن أن الاجتماع في ديوان بيتنا إنما كان للتخطيط لرحلة سرية مكتومة فإذا به اجتماع تنفيذ مؤامرة قتل والدي في وضح النهار. ولم أفق من شرود ذهني وحساباتي إلا ويد خالي الطاهرة تمتد الي وتمسكني, ويقول:
سأطلعكم على سر آخر ، ولكن مالي لا استطيع الحركة؟ قدماي لا تقوى على الانتقال كأنها غرزت في الأرض وتسمرت في حجرة البيت. حرضني خالي إسماعيل يرحمه الله على السير فاتكأت على يده ومشى بي جرا إلى منزله الثاني وكان ملحقا به ديوان للرجال فتقدم نحو الباب وشقه مفتوحا خفيفا مواربا وقال:
أنظري فنظرت فإذا أكداس من الأسلحة بنادق وعيارات نارية وفي أعلى الديوان رأيت رجالا متحضرين فنادى خالي أحدهم وعرفه بي فتقدم الرجل نحو الباب وخاطبني قائلا:
قري عينا يا بنت أمير المؤمنين إن ساعة الحساب آتية لا ريب فيها ، وسيعرف الذين ظلموا أية جريمة ارتكبوها وأخرج منشورا وكان من ولي العهد أخي أحمد وقرأته . وأن الإمام أحمد في حجة والناس يتوافدون على ديوانه لمبايعته إماما خلفا للإمام الراحل وهو قادم بجيش جرار باذن الله إلى صنعاء ، وعدت إلى مستقري في بيت خالي حيث كانت في انتظاري ابنة خالي امة الرزاق ، وهي التي أبت أن تفارقني لحظة واحدة. كيف أصف هول ما سمعت عن زوجي؟ قلبي قد تباين صدعه وعيني لا ترشح إلا بالدم ، وأحشائي محترقة وأجفاني بمائها غارقة.. الدمع واكف والحزن عاكف. زوجي يقتل أعز انسان علي في هذه الدنيا ، يقتل والدي ، أنا الذبيح الحي الماشي أي حقد أعماه؟ يا لهفي على ما افتراه ، وتبا لما ادعاه من حب وود وتقدير. أكانت تعزيتهم تشفي ، وهل بكاؤه المر ونحيبه ما كانت إلا غطاء ، هل أتقن زوجي دور الندابة النواحة التي تستأجر بالدراهم في المآتم المصرية ، تمشي وراء الجنازة تندب وتنوح ، ولا صلة لها بالميت من قريب أو بعيد سوى ما سوف تقبضه من الدراهم بعد أن يوارى المرحوم الثرى ، هل أصبح زوجي مشخصاتي مصري؟ نياط قلبي تتقطع ، رزئت بوالدي وأخواني وابن أخي ، يا فجيعتي بزوج ماكر خبيث منافق يظهر غير ما يبطن تمكن الشر والحقد والحسد منه ، وما عاد يفكر إلا في القتل والأدهى والأمر أنه يكذب ويدلس في مشاعره ومظهره. إذا جاء الي كان كالحمل الوديع يبكي ويتأسف ويتمتم بكلمات كنت لاأدع أذناي تسمعها ، كانت ليلة عرف السهاد طريقه الي طوال الليل ، أنا مفتحة العيون فاغرة الفم والأشداق مبهورة أفرك يدي واضرب أخماسا في أسداس أقلب الأمور، ظلام في ظلام، ساعات الليل تمر علي ثقيلة بطيئة طويلة كأنها أشواك تغرز في قلبي الهموم حتى أغدو منهوكة الأعصاب خائرة القوى. لقد مزقتني الخطوب والمخاوف ، ولولا ذاك الشعاع الذي وصلني من فتحة ديوان خالي ولعل من مرجف يتصور أني بالغت في تحميل زوجي وزر ما وقع ، وما من دليل إلا ما نقله خالي وتظل أقوال خالي في مقامها من حيث الشك وليس اليقين ، ولكن رويدا فان القول الفصل والبرهان الأكيد الذي لا يأتيه ذرة شك ذاكرته بعد ورقات إن شاء الله ، حيث لا لبس ولا إبهام دليل متهدج. وأفقت على صوت أن سيدي عبد الله بانتظاركم ، وتساحبت أعضائي ، رجلاي بالكاد تنتقلان وتسيران بجسمي المرهق ، وذهبت إلى حيث ينتظرني وقعدت وخالي إسماعيل واقف معنا ، يتنقل بنظره تارة إلى وجهي وطورا في وجه المسمى زوجي. فقد كان خالي إسماعيل يخشى أن تبدر مني إشارة أو تلميحة أو كلمة فتكون هي نهايته ، فما نحن إلا أمام قاتل أشر. وأرسلت إلى خالي: لاتخف أيها الخال إني واياكم على العهد والأمان. أمرت ملامحي أن تعود إلى طبيعتها وكأني لا أعرف شيئا سوى ما كان قد نقله زوجي الي فقط سيطرت على نفسي سيطرة تامة ، وقيدت كل اعصابي بقيود ضاعت مفاتيحها ، فلا يمكن لأحذق المفترسين أن يستدل من ظاهري على ما اكتنزه باطني كأني أقول لخالي: اطمئن يا خال فاني للسر حافظة وحياتك علي لن أخيب أملك فأنت يا من أسديت كل هذا الجميل كنت الوالد الثاني وأنت أعدت الأمل إلي بقرب انتهاء الكرب وحصول الفرج فلا تقلق. أما المسمى زوجي فقد لاحظ شحوب وجهي وترخل عيوني فعاد يذكرني بمعزوفته القديمة.. تجملي بالصبر يا ابنة أعز الناس وبالغ في استحضار الأحاديث وقراءة بعض الابيات التي تدعو للصبر الجميل وفضائل الصبر. صحيح أن القلب كان ينزف دما والعين تقذف جمرا ملتهبا والاذن عافة عن سماع اكاذيبه والانف يشتم من كل خلية في جسمه رائحة الغدر والخيانة ولكن أنى له أن يلحظ شيئا من كل هذا فما أبديت إلا ارتياحا وقبولا لما يقوله والأهم أنه غادر ولم يصطد مني كلمة أو إشارة واحدة بأني أعرف أمورا جديدة وودع وانصرف. ثم عاد في اليوم التالي أو بعده بيوم ومارست عين الاحتياطات والتظاهرات فقابلته وخاطبني قائلا:
انه يستوجب علينا السفر إلى المملكة العربية السعودية ، أنا والقاضي محمد محمود الزبيري والفضيل الورتلاني الجزائري للاجتماع مع وزراء جامعة الدول العربية ولن أتأخر أكثر من ثمان وأربعين ساعة. كأنه يقول لي: ها أنا اسافر وانت تعلمين وقد عرفتك سبب سفري ومدته لذا فاني قد اوفيت والتزمت بما كتبت في الورقة المودعة عندك. ومضى دون أن يودع ابنته أو حتى يذكر اسمها. وحين ادار ظهره شعرت براحة عميقة وكأن كابوسا ثقيلا ثد زحزح عن صدري فما عدت أطيق رؤية وجهه ولا عاد لأذناي من قدرة على سماع أكاذيبه ودجله وريائه تمنيت لو أن الأرض انشقت وابتلعته ورمقته وهو يسرع الخطوات وقلت: أن الله يمهل ولا يهمل وان عذاب ربي لعظيم عليه اتكلت واليه انيب وحسبي الله ونعم الوكيل. ورجعت إلى بيت خالي وألملم بقايا أشلائي أتجمل بالصبر والصبر يحمد في المواطن كلها والصبر على والدي وأخواني وبن أخي أن أبكي وأن أجزع.. أكثر ما كان يضغط علي لكبح غيظي عندما أرى المسمى زوجي اضطراب خالي عندما يراه إذا ما جاء للزيارة أو تسقط الاخبار مني، الدقائق التي كان يمضيها عندنا أراها دهورا قاحلة ظله ثقيل بليد على خالي وعلي أكثر بلادة وثقلا وغادر إلى المملكة العربية السعودية وكان هذا آخر العهد به. أما ما حدث معه منذ وصوله إلى المملكة العربية السعودية وتنقله في البلاد فسأتركه للرسالة التي كتبها عبد الله بن علي الوزير إلى الشيخ عبد الله بن علي الحكيمي، وبادرت المجلات في نشرها والتعليق عليها وتفاخر بها كتاب آل الوزير والعديد من الكتب التي صدرت في اليمن بعد سنة 1962م. يجعلني أورد مقتطفات منها تتعلق بي وبحادث الجريمة المروع وللبيان فاني لم أر أصل الرسالة ولو رأيتها لعرفت أن كانت بخطه أم لا غير أن تبنيها من آل الوزير وخاصة الوالد أحمد بن محمد والولد إبراهيم. ويبدو أن عبد الله بن علي الوزير كتب رسالته وبعث بها إلى الشيخ الحكيمي المقيم ظلما إلى جانب المعارضة وكان مرض السل قد عاود عبد الله بن علي الوزير ويعالج في مستشفى مجاني بالهند كان مخصصا للغرباء.
يقول في رسالته: ثم تزوجت بابنة الإمام عن اشارة لي من والدي وهي أيضا صالحة ففيها شفقة ومودة ورحمة. وهذا بخلاف ما ذكره الولد أحمد بن محمد عبد الله الوزير في كتابه عن سيرة لعم علي بن عبد الله الوزير فيه ذكر أن الإمام يحيى عرض تزويج عبد الله بابنته الأميرة التقية ( فالعرض والرغبة كانت من والد عبد الله وليس من والدي يحيى). ويضيف عبد الله بن علي الوزير في رسالته: ولكن ما كانت تلك القربى وتلك الصلة لتزيدني إلا حقدا وغيظا ومقتا لأني كنت ألمس تلك الحقائق التي سمعتها من عمي.. فالزواج لا يقيم وزنا لصلة القربى حتى وان كانت لآل البيت، وهو ما اوصى به الرسول الامين صلى الله عليه وآله وسلم. وتحت عنوان المفاجأة يكتب عبد الله:
المفاجأة
في ذات ليلة من ليالي أواخر ذي القعدة سنة 1357 ÷ـ وأنا بصنعاء لم أشعر في الساعة الرابعة ليلا إلا بوصول ظروف مختوم من الإمام ولما فتحتها وقرأته فإذا بالإمام يقول في رسالته الي" صدر تلغراف والدك ستوجه للحج فتأهب غدا لملاقاته إلى الحديدة لا تتأخر لتفوتك الباخرة " ويمضي في التفاصيل أما أنا فاني في تلك الساعة المتأخرة من الليل حزمت بعض أمتعتي الضرورية وما معي من الفلوس وفي الصباح توجهت إلى الحديدة ولم يقف خفقان قلبي إلا بعد وطئت قدماي الباخرة التي ستنقلنا إلى جدة وهناك تنفست الصعداء. وعن اقامته السنوات التسع في مصر يذكر في رسالته " كان يقوم به من تحريض وانتقاض وثلب الدولة في اليمن ومن ثم احتضانه من قبل جماعة الأخوان المسملين في مصر وكان زعيمها آنذاك ومرشدهم العام حسن البنا وقد تولى بن الوزير في مصر كل من الفضيل الورتلاني الجزائري والحاج محمد سالم ومحمد صالح المسمري وعبد الوهاب عزام. ويؤكد عبد الله الوزير انه قابل الوزير المصري عبد الحميد صالح باشا وأبلغه نيته في العودة إلى اليمن حسب الخطة المرسومة فهو اذن يقر ويعترف أن هناك خطة رسمت لتنفيذها في اليمن ولم يصفح عبد الله عمن أعد الخطة وما هي طبيعتها ولكنه اكتفى بايراد دليل انه كان اداة تنفيذ للخطة المرسومة وعودته كانت بدواعي الخطة المرسومة. ويقول عبد الله بن علي الوزير: كان توجهي إلى صنعاء عن طريق عدن على باخرة انجليزية من حاملات الجنود في 24 فبراير اي سنة 1947م. فمن ذا الذي سهل له السفر على باخرة انجليزية حاملة الجنود وعادة ما يكتسب هذا النوع من البواخر سرية خاصة فهي ليست باخرة مسافرين بالاجرة وسافر إلى عدن المحمية البريطانية والتي كانت تسهل المتمردين على الدولة في اليمن وتقدم لهم الدعم المطلوب.
ويقول في فقرة أخرى:
وهناك بصنعاء قد سبقني إليها فضيلة السيد الفضيل مرسلا من لدن الحاج محمد سالم من مصر واسباب وصوله انه بعد خروج السيد حسين الكبسي رحمه الله من مصر أخبر الإمام انه يوجد في مصر شركة عظيمة للسيارات ومديرها الحاج محمد سالم رجل عظيم من أهل الامانة والديانة إذ كان مراد الإمام أن يكون لهذه الشركة فرع في اليمن أو تتألف شركة ترتبط بها فطلب الإمام خروج محمد سالم إلى صنعاء بنفسه فاعتذر فأرسل الفضيل. الخ.............ثم كان ارسال مطبعة من مصر إلى عدن ومعها الفني الذي سيعمل عليها لطبع المنشورات ضد دولة الإمام.
عبد الله بن علي الوزير يضيف:
نعم بعد وصولنا صنعاء بيومين، قررنا تأليف الشركة اليمنية الكبرى وكان اجتماع جميع التجار وغيرهم من الأعيان في دار السيد حسين الكبسي وانتخبوني من غير سعي مني رئيسا للشركة وقد كانت المسرح المشرف والستار الفضي لجهادنا المقدس فالشركة إذا ما كانت بهدف تطوير اليمن وتقديم خدماتها لأهل اليمن وانما ستارا وغطاءا للعمل ضد الدولة والتآمر على النظام. ويصف عبد الله بن علي الوزير حالة الفرح التي غمرته بعد النجاح في اغتيال الإمام ويقول: كان الفرح والسرور شاملين جميع انحاء اليمن فلقد زالت صخرة ثقيلة مخيفة كانت جاثمة على الرؤوس وتواردت البرقيات للامام عبد الله الوزير من جميع أعيان ورؤساء وعمال اليمن وأخرى كثيرة من الخارج. ويشرح عبد الله بن علي الوزير ما قام به من انشطة واتصالات وبرقيات ارسلت لجماعة الأخوان المسملين في مصر ويفصل دور كل واحد من المتآمرين ثم مغادرته السعودية ووصوله إلى عدن ويقول: أما أنا وزميلي أي القاضي الزبيري فان رئيس بوليس عدن دنكن طلبنا إليه وقال: الأاحسن أن تسافروا من عدن وزاد: إلى أي جهة تحبون السفر؟
فقلنا له: الجهة التي تراها أحسن لنا نسافر إليها،
فقال: الأحسن الهند أو الباكستان.
وحرر لنا جوازات السفر وتوكلنا على الله ووصلنا إلى حيث أنا الآن فقد سافر عبد الله الوزير بجواز سفر محمية عدن التي تصدره السلطات البريطانية المحتلة لعدن إلى الهند أو الباكستان وكانتا تحت الاحتلال البريطاني أيضا. ويقرر عبد الله بن علي الوزير : في 3 اغسطس 1948م فاجأني المرض الخطير نزف دم رئوي فانتقلت إلى المستشفى ومكثت فيه عشرة ايام ثم نقلت إلى المستشفى الهوسبيتال المجاني للغرباء وهناك ودعني زميلي العزيز (اي الزبيري) لأنه قرر أن يتوجه إلى حيث هو الآن. عاوده نزيف الدم الرئوي ونشطت جراثيم السل في رئته كما نشطت في دار الشكر غداة زيارته الأولى لدار الشكر بعد غيابه السنوات التسع وعودته حسب الخطة المرسومة في الدوائر الكائنة في مصر فلا تسمم ولا مؤامرة على حياته ولم يدس له شيئا كما زعموا فيما بعد. توفي عبد الله بن علي الوزير في ذي القعدة 1368 هـ/ سبتمبر 1948م ولم اعلم بخبر وفاته إلا بعد سنة وحياته ومرضه ومماته أصبحت لا تهمني لا من قريب ولا من بعيد أما أنا فأدخلت إلى الوجوم مرة أخرى وسرحت بعيدا بعيدا في تأملاتي عفت الكلام لا أبغي سماع أحد وانما عكفت على مراجعة ما كان وأسير مع ذكرى أبي في رحلة حياته ما فارقته لا في حلة ولا في جولاته. في يوم من الأيام صحوت من نومي ونحن في الروضة ومن توي هرعت إلى غرفة والدي لأطمئن عليه والليلة البارحة كان يعاني من المرض وارتفاع في حرارة جسمه وسلمت عليه وقبلت يده واستفسرته عن صحته وبدل أن يجيبني قال: أعطوني ملابسي وارتداها مسرعا وهم بالخروج. قلت له: سيدي، يجب أن ترتاح اليوم فأنت تعرف حالك البارحة.
قال: هذا قولك ولكن ماذا سأقول إلى الله تعالى والناس منتظرون خروجي.وتحامل على نفسه وخرج كالعادة وكلنا في ذهول. وقتلوك يا أبي لقد رزئنا في الإمام يحيى كان عالما مجتهدا أمة في نفس مضى والدي والمحاسن ستظل تبكيه لا حول ولا قوة إلا بالله ما زالت الذكريات تستبد بي كأنها رغبة عارمة كأنها تباريح صرخات تناديني وتدعوني إلى بذل تلك السمات الصادقة النقية لوالدي رحمه الله. كان والدي يرحمه الله يحب تواجد أخواني يوميا للغداء معه وأداء صلاة العصر وكان لأخواني المتزوجين بيوت مستقلة ولكنهم كانوا يحضرون كنت ارتقب سماع نصائحه لأخوتي فيوصي الكبار برعاية الصغار ويوصيهم في زوجاتهم خيرا ويشدد بضرورة تعاملهم مع الناس بالعدل والأخلاق. في المساء وبعد العشاء كان يرحمه الله يطالع الصحف والجرائد التي تأتيه من الخارج ويقرأ جريدة الايمان واذا جاء في الاخبار ما يمس الدول العربية من الدول الاوروربية المستعمرة أو ما يجري في فلسطين من قبل إليهود فانه كان يبصرنا بأساليب المستعمرين واليهود ويشركنا في مناقشة تلك الاخبار. وكثيرا ما كنت أطلب إليه أن يحدثنا بطرائف الوالد حسين عبد القادر رحمه الله الشعرية والأدبية وما كان يدور بينهم من أشعار ومساجلات كنت اسجلها في دفتري وما زلت احتفظ بها إلى اليوم مثل قصيدة السبع البوارد والابيات التي قالها في الخردل. وسجلت في دفتري بعض نوادر القاضي محمد راغب رحمه الله. خرج الإمام بمشواره اليومي بعد العصر برفقته القاضي راغب وعند عودتهم في الغروب اخرج الإمام من جيبه حبتي تمر وقال للقاضي راغب: هل أعطيكم فطورا فاستغرب القاضي راغب. وقال: أي فطور.
قال والدي: هذا يوم عاشوراء وهو يوم عظيم تروي بعض الأحاديث: أن من صامه غفر الله له ذنوب سنة ماضية وسنة آتية.
فأجاب القاضي راغب: اعطيني فتوى بيدي لأترك صوم رمضان وأصوم هذا اليوم فقط والله يغفر عاما سابقا وعاما لاحقا وضحكا.
وأنا أقول : الحمد لله الذي أكرم والدي الشهادة فهنيئا له ولأخوتي ولكل من قتل وتوفاه الله شهيدا مظلوما ولي في قول الله تعالى:
" يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة أن الله مع الصابرين، ولا تقولن لمن يقتل في سبيل الله أمواتا بل أحياء لكن لا تشعرون".
وجل من قال:" ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل احياء عند ربهم يرزقون".
في صباح اليوم الثاني تولى أخي علي نقل جثة والدي وأخواني وبن أخي ودفنت في جوار مسجد الرحمة في بئر العزب وكان الإمام يحيى قد اشترى الأرض ليدفن فيها لأنها بجوار مسجد ولم يكن له موكب تشييع أو أية مراسم شعبية فقد فرض الانقلابيون حظر التجول ومنعوا حركة الناس. وتوشحت بجميل الصبر وداومت على العبادة والصلاة وقراءة القرآن ففيه سلوان وطمأنينة لقلبي . ثم جاءتني الاخبار المفزعة لقد ألقى الانقلابيون القبض على أخواني علي والقاسم وإسماعيل ويحيى وأودعوهم سجن قصر غمدان أبلغني بالخير أولاد خالي. وبعد ثلاثة أسابيع كان النصر للامام أحمد وعرفت أن الإمام أحمد اصدر بلاغا رسميا توجه به إلى شعب اليمن أعلن فيه العفو العام: وجاء " الآن نصرنا الله على تلكم العصابة التي اغتصبت العرش لأيام قلائل بوسائل الغدر وارتكاب جريمة القتل والاغتيال لجلالة الملك الراحل الإمام يحيى رحمه لله وتغمده برضوانه كما قتلوا أبناءه وكثير غيرهم من الأبرياء من الرجال والنساء والاطفال وضغطوا على سكان العاصمة بالحديد والنار حيث سلطوا الجيش بسلاحه على الآمنين في دورهم وكل ذلك للاستيلاء على بيت مال المسملمين واللعب بالنار لأغراض تتنافى وتعاليم الاسلام وتتصادم مع الشهامة العربية. نعم الآن يجب أن نعلن للجميع بأن تلك العصابة الأثيمة قد باءت بالفشل والخسران والندم. ونحن بازاء هذا النصر العزيز والفتح المبين لا يسعنا إلا أن نقدم الحمد الجزيل والثناء العظيم لله العزيز الحكيم على ما أولانا من نعم، ثم أنا شكرا لله عز وجل نعلن العفو العام لكل شخص قال ما قال أم فعل ما فعل أثناء تولي تلك العصابة المجرمة للحكم كان ذلك في صنعاء العاصمة أم خارجها من بلاد اليمن أم غيرها. نعم عفا الله عما سلف فانا لا نحمل حقدا لأحد ولا نعمل على ضر احد بل نعاهد الله على أن ننسى الماضي بما فيه من خير وشر إلا كل عمل يمس حدا من حدود الله فمثل هذا العمل سيحال إلى هيئة من كبار العلماء وفطاحل القضاة والحكام للنظر فيه والعمل بما يطابق كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما ما عدا ذلك فنحن قد عفونا عفوا كريما تاما يشمل العفو كل شخص سواء أكان في الجيش أو أية مصلحة من مصالح الحكومة أو من رعايانا في أي ناحية كانت نعم عفا الله عما سلف والله المستعان ومنه التوفيق. وعلى الاثر اشتعلت صنعاء بالمشاعل من على سطوح المنازل تعبيرا عن التنصير ونصرة الإمام أحمد كل صنعاء أصبحت نورا مضيئا ولكن لم تكتمل الفرحة إذ لم تمض ساعتان إلا وحصل ما لم يكن بالحسبان. جموع غفيرة هائجة مائجة غاضبة لمقتل الإمام فان القبائل المحاصرة تملأ عنان السماء يا متوكلاه يا متوكلاه جاءوا ينهبون كل شيء في صنعاء فأهالي صنعاء في عرفهم بغاة ظلمة قتلوا امام الامة ونهبوا البيوت والاثاث والمحلات التجارية، وحتى النوافذ والابواب دخلوا مسلحين بالبنادق والفؤوس والمعاول وحتى جمالهم وحميرهم.
رأيت بشرا يقتحمون المنازل ويشلون كل شيء فيها حتى وصلت جموعهم إلى بيت خالي وسمعت قرعا شديدا على الباب الرئيسي كأنهم يريدون كسره والدخول عنوة فأسرع خالي إلى الباب وبادرهم بقوله: ضيوف على الرحب والسعة عندي ابنة الإمام الشهيد فتراجعوا وقالوا: قبلنا حياك الله وحيى بنت الإمام وتراجعوا فلا نهب ولا حتى تخطي عتبة الباب. فناداهم خالي: إلى أين؟ تفضلوا أحمونا وأحموا جيراننا. وبالفعل استجابوا وبادروا بترتيب أنفسهم على النوافذ والاسطحة والبوابات لحمايتنا وجيراننا . ما كنت أعرفه وما زلت اعتقده بأن قبائل اليمن معروفة بعزة النفس وحاشى لله أن يعتدوا على الابرياء ولا على الاطفال والنساء ولا يحاسب إلا من ارتكب الجرم وقد سمعت أن أخي الإمام أحمد أرسل قوة من العساكر احضرت أسرة جمال جميل وزوجته وأولاده وهو مدير الامن في فتنة الانقلابيين واحد قادة الفتنة واسكنهم بمنزل جوار منزله وألزم عددا من الحراس لحماية الأسرة ولم يمسسهم اذى بتاتا. غير أن الجموع الهائجة كانت تهتف قتلتم الإمام يا أهل صنعاء يبغون الانتقام من الكل ساخطون كل السخط. في صباح اليوم التالي وصل أخي علي وكان قد تحرر من سجن قصر غمدان بعد أن خارت عزائم الانقلابيين واستسلموا إلى منزل خالي لغرض انتقالي من بيت خالي والالتحاق بأسرتنا لكن خالي قال متوسلا: لولا بقاؤهم عندي ما سلم بيتي من النهب فاتركهم لأيام أخر وبافعل تركني أخي علي ثم بعد يومين وقد هدأت موجة النهب وبدأ الامن والاستقرار يعودان وصل هذه المرة ومعه أخي يحيى.
وأبلغتهم : أني لا أريد الذهاب إلى دورنا هروبا من الوحشة والاغتراب لفقدان ركنها والأخوان وما حل بها في الثلاثة أسابيع التي اخضع فيها الانقلابيون صنعاء لنزواتهم فذهبنا إلى دار أخي علي المسماة بدار الحمد. أما أخي علي فقد كان يحاول بكل وسيلة وقوة تهدئة الاوضاع والعمل على دفع القبائل بمغادرة صنعاء والعودة إلى بلدانهم. ومنع النهب والتدمير والخراب كان يصل إليه أناس يستغيثون فيذهب معهم مبكرا ويعطي بعض المشايخ مبالغ مالية شريطة إلا ينهبوا أو يعتدوا ويشترط عليهم مغادرة مدينة صنعاء قبل غروب شمس ذلك اليوم، كل يومه يقضيه في اقناع القبائل للتوقف ومغادرة المدينة ولا يعود إلا في المساء وقد شحب وجهه وغدا منهوك القوى متعبا.
وما هي إلا أيام إلا هبت علي محنة جديدة ذلكم أن بعض المغرضين أوشى للامام أحمد بأن أخي علي كان يصرف الأموال من بيت المال بوجه غير شرعي وأنه يبدد خزينة بيت المال فأمر الإمام أحمد بايداع أخي علي سجن حجة بدعوى تصرفه بأموال الدولة خلافا للوجوه الشرعية.
فقلت في نفسي: أيتها المحن قد أكملت الشوط، أيتها المصائب لماذا تنزلين علي تباعاً.
مصائبك كانت ذات شقين:
مصيبتي في ابنتي ماذا لو عرفت أن اباها هوالذي قتل جدها لقد سقطت كل الاقنعة وباتت الحقيقة معروفة فكيف لي أن احرس ابنتي من كل طارق واحول دون معرفتها الحقيقة المرة والتي ستدمر كيانها تضاعف حبي لابنتي وزاد تعلقي بها سيما وانها ذكية مرهفة الاحساس وهي قد بلغت العاشرة من عمرها. ساعدني الله وأقمت من نفسي سدا وحارسا وحاجزا لها من رفيقاتها بنات عمرها ووقف معي جميع أفراد أسرتي حالوا دونها وسماع الخبر وكان الامر صعبا فكيف أحوطها بكل هذه السرية والكتمان ووفقني الله في تحمل المسؤولية فليس لابنتي من يحميها من لهيب الاكتواء بنيران الأحزان غيري انها بريئة ولا ذنب لها في كل ما حصل ثم انها فلذة كبدي وقطعة عزيزة مني دما ولحما وعاطفة وحبا. وبعد حقبة من الزمن اخبرتها أن والدها عانى من امراض كثيرة وتوفي بالخارج وما نطقت لها بكلمة واحدة عن ذاك السر الرهيب وانما عرفته هي عشرين عاما وكانت قد تزوجت ووهبها الله عبد الوهاب وخالد عرفت السر من اعمامها الولدين زيد وقاسم الوزير في بيروت. سمعتها ذات يوم تقول وقد عرفت كل شيء:
الحقيقة أن أسرة حميد الدين طيبون لأن احدا منهم لم يفوه بهذا الخبر أن لوالدي اليد الطولى في قتل جدي الإمام يحيى. كم كان ثقيلا ومرهقا حجب هذ الخبر عن ابنتي طوال تلك السنوات الغبراء.
ومصيبتي الثانية: في اغتيال والدي وأخواني وابن أخي واعتقال الانقلابيين أخواني ثم معاودة اعتقال أخي علي، لا لذنب اقترفه وانما لوشاية من حاقد. وليعذرني القرىء فالافكار والذكريات والحوادث تضطرب وتتشابك ولكن ما ذنبي فأهوال ما عانيته تهد الجبال وصبري دونه أكباد الجمال. وكان أن وصل أخواني المطهر ويحيى إلى دار أخي علي يحملون رسالة الي قالوا وصلنا خصيصا لك رسولين من طرف الإمام أحمد. الإمام أحمد مشغول باله عليك ويطلب نزولك إلى تعز لتكوني طرفه وسيعمل كل مستطاع لراحتك وبالفعل استجبت . وبالفعل سافرت مع أخواني المطهر ويحيى وبرفقتي ابنتي والمساعدة الامينة ولكن دون مواكبة واحتفالات وقد فرح الإمام أحمد بوصولي وقابلني وابنتي بقدر عال من الحنان والود وحين انفردت به طرحت عليه موضوع اعتقال أخي علي وبينت له وأنا شاهدة على ذلك أن كل ما صرفه ما كان إلا استجابة للاستغاثات التي أبداها الناس ليتخلصوا من الاضرار التي أصابتهم بسبب هؤلاء ولولا جهود أخي علي وحسن تصرفه لاستمرت الفوضى والغمة لأيام أطول ولأصاب الناس شر مستطير. وكان جوابه يرحمه الله؟: اني واثق من صدق ما تقولينه ولكن الشرع يفرض علي التثبيت والاستقصاء. وما هي إلا أيام حتى أطلق سراح أخي علي وعاد إلى منزله بعد أن اتضحت الحقيقة وبراءته بشهود عدول اثبات. ثم ناقشت أخي أحمد في اعتقال عمي الكبير وقلت له: أعتقد براءة العم علي من دم أبينا.
فأجاب: مع احتمال ذلك، فإذا ثبت فسوف يطلق سراحه والحقيقة لا تخصني وحدي في دم أبينا فهناك ورثة غيري. ثم أن القضية تحت نظر الشريعة. فلا تدخل فيها لا مني ولا من غيري. وفي تعز أسكنت في قصر الصالة من الدار الشرقية بعد أن جهز لاستقبالنا وكان يصحبني أخي عبد الرحمن وأولاد أخوتي علي بن إبراهيم والحسن بن علي ونلقى الرعاية الجمة والعناية الفائقة المباشرة من أخي الإمام أحمد رحمه الله واستأنفت ابنتي الدراسة مع أستاذة القصر.
امضيت في تعز عامين، ثم تاقت نفسي لزيارة صنعاء ولقاء أهلي وأستاذنت أخي الإمام فوافق شريطة أن أعود. وأشهد انني خلال اقامتي طرف الإمام أحمد ما عرفت منه إلا التفاني في خدمة شعبه ومتابعة قضايا الناس بهمة لا تعرف الفتور كان يعمل في النهار والليل وله صولات وجولات حتى داهمه المرض. وسافرت إلى صنعاء ولما وصلت انشغلت بترتيب أموري وتجهيز سكن مناسب وتأثيثه ودار دولاب الحياة مرة أخرى مهما كانت فرائس الأحزان وكيفما كانت علقمية الذكريات فالحياة يجب أن تستمر. كان لتواجد أخواني حولي كل واحد منهم يشملني بالود والتقدير ويحاولون دفعي لتخطي الأحزان ومواجهة الحياة بكل شجاعة وعناد واصرار. والحق أقول: كان لدي اصرار عجيب على الاستفادة من كل ما هو متاح والتغلب على الوازع العاطفي فحاولت الانطلاق من مغاليق نفسي فالماضي لن يعود حياتي بدأت من جديد في صنعاء وكان بها آنذاك من أخوتي. أخي المولى الحسن حفظه الله وأخي عبد الله والمطهر وعلي والقاسم والعباس ويحيى كل واحد منهم في سكنه وله شخصيته وطباعه وسلوكه إذا زرت دار الشكر حيث سكن أخي الحسن أجد فيه صفات والدي نفسه زكية لطيف المعشر أسمع منه العلم الرقيق والاحاديث النبوية ونصائح وفوائد لا غنى لأحد عنها غير أن دار الشكر وبرغم عنادي واصراري على تجاوز ما كان كانت تثير أشجان نفسي وتنشر ذكريات ارتبطت بأحلى أيامي الخوالي تسابيح الليل وآذان الفجر بصوت العم حمود الشمسي مؤذن الإمام الشهيد واذا كنت في قصر دار السعادة استرجعت حادثة مضحكة ومخجلة فقد كنت أعلق في صدري ساعة ذهبية مربوطة بسلسلة ذهبية للزينة والوقت ومن عادتي أن يكون أبدا قلم في جيبي لا أفارقه البتة. لأن والدي يرحمه الله كان يأمرني في أغلب الاوقات أن أكتب ما يمليه علي مثل تحويل شيء أو فك لدخول أو خروج احد من القصور ويومها كنت في الروضة. وفي أحد أيام الصيف وكنت مع أخواتي وقد انتهى والدي الإمام من صلاة العصر في شاذوران دار الخير بالروضة استدعاني والدي وأمرني أن آتيه بورقة بيضاء لأكتب شيئا فهرعت إليه بالورقة وأخرجت القلم وقعدت أمامه منتظرة لما يأمرني بكتابته فإذا قلمي فارغ من الحبر نفضت القلم حتى استجر الحبر فما اجاب فخجلت واحمر وجهي، فقال والدي: كم الساعة فنظرت إلى ساعتي فإذا بها واقفة لا تتحرك عقاربها فذبت واضطربت فنظر الي والدي بنظرات مؤنبة كادت أن تسحقني وكنت أتوقع الأكثر إلا أن صغر سني ودلاله لي شفعا لي واكتفى والدي بتلك النظرات ولكن لم يشعر بها أحدا من الحاضرين. كنت اعرف أن حنان أبي وحبه لي منعاه من تأنيبي وكانت درسا قاسيا تعلمت أصول اليقظة والحيطة وما برأ جرحي إلا عندما تكررت الحكاية وأمرني بالكتابة وسألني عن الوقت فكنت جاهزة ومستعدة ولمحت رضا بريق عيونه وانفراج أساريره ومن ذلك اليوم ما تراني إلا أقدر الأمور حق قدرها على الدوام. في دار الخير بالروضة حيث سكن أخي العباس كنت عندما أزوره أجبر نفسي على عدم النوم إلا بعد صلاة الفجر لأستمع إلى زقزقة العصافير في الصباح الباكر ثم أصوات الغلمان الصغار يتغنون بأنغام طفولية رائعة لاخافة العصافير وطردها حماية لأعناب الروضة يبدون كجوقة غنائية نظيمة اللحن والموسيقى واستمتع بغنائهم وألحانهم كأنهم يعزفون على أوتار قلبي ثم يتلوه أصوات الشباب وهم يسنون المياه وبالدواليب والبكرات من الآبار بواسطة الجمال بألحان قد توارثوها من عمق الزمن عن الآباء والاجداد. وفي بيت أخي العباس كان الماضي يتجسد امامي تذكرني دار أخي العباس بالاهل والناس وتعيد رسم صورة مجتمعنا اليمني في زمانه ووقته ولكن وأواه من لكن فان ذكريات الألم تعاود عصر نياط قلبي أصبت بسهم الزمن وتوالت المصائب فحادثة اغتيال والدي المجاهد والمحب لشعبه وأمته التقي الورع الزاهد العالم وقد جثا على جثمان حفيده الطفل وبجانبه رفيق دربه والمؤتمن على دولته وزيره القاضي عبد الله بن حسين العمري وأخواني الحسين والمحسن ماكانت لتفارقني لحظة وان كنت اتصنع السرور والضحك. وتوفي أخي إبراهيم رحمه الله في 22 شعبان 1367 هـــ/ 29 يونيو 1948 م ثم أخي يحيى رحمه الله تعالى عام 1369 هـــ/ 1950م. مالي أرى طائر الفرح يخفق في صدري لحظة ثم أراه وقد طار اترنح وسط عباب زاخر وعصف رياح فغمامة من الحزن تظل رابضة على صدري أفقد كل حين أخا عزيزا. وعبر صبر عجيب فان شفتاي تتمتم لا بد من ابعاد كل جنوح إلى الضعف عن خاطري علي أن أوقف طاحونة العذاب التي تحيطني. فضلت الاستقرار في منزل أخي علي " دار الحمد "، حتى يتم اصلاح وفرش منزلي وبالفعل، انتقلت إلى منزلي ولم استقر فيه سوى بضعة اشهر
الزوج الثاني
وظهر السيد أحمد بن الحسين الكبسي ، وجاء يطلب يدي ، ورفضت ، إلا أن أخوتي عادوا كما المره السابقة لمدح الخطيب ، وأشادوا بمناقبه وصفاته، والحقيقة أن رفضي كان كما عادة البنات ، ووجدتني استجيب طواعية لا مكرهه، لا سيما وأن ابن الوزير قد توفي، وحرصت على أخذ موافقة ابنتي.
كان الزواج في دار السعادة برعاية أخي الحسن، حيث اقام حفلا كبيرا، في دار السعادة، وأخي العباس هو الآخر أقام حفلا جميلا وفق الأعراف والتقاليد اليمنية، وطلبت من دار الحمد ، منزل أخي علي، إلى دار السعادة بعد تحديد يوم الزفاف.
وقد دعي إلى الحفل الأهل والأكابر والأنساب، وردد المنشدون أناشيد مرحبا يانور عين... إالخ. وطلع البدر علينا، ثم كان الغداء والقهوة والقشر واللوز والزبيب، وتستمر الأناشيد والزفة الصنعانية المشهورة إلى المغرب، وينتهي الحفل ويتأخر من المدعوات الأخوات والصديقات لزف العريس.
كان زوجي متدينا تقيا، ولكني ما تغافلت يوما عن العناية بابنتي، فقد أحضرت لها مدرسة فلسطينية لتدريسها اللغة الإنجليزية كانت قد وصلت اليمن بعد نكبة فلسطين سنة 1948م، كما غيرها من الفلسطينيين حملة الشهادات العلمية للعمل في اليمن، وكانت المدرية شهيرة الفلسطينية جادة في تدريسها لابنتي.
ورزقني الله من الأولاد، الذكور والإناث فأشرقت حياتي من جديد، وسرت إليَّ السعادة مرة أخرى، ومابين الحلم والحقيقة عشت الأيام التالية.
إلا أن الدهر أبى، وظل على عناده، يقلب لي ظهر المجن مابين الفينة والفينة، فتوفي أخي المطهر في 22 شعبان 1372هـ،غريبا في اسمرا، فمالي والزمان لا يتركني، فالبكاء غدا توأم روحي، وتأسيت بأبيات الشعر التي رثا بها أخي علي، شقيقه المتوفى :
أواه مـن مكر المنـــايا والزمــن أسرعت ويحك التسرع والإحن
قالوا قضى تربي المطهر نحبه أسفاه من سر يضيق به العلن
قالوا قضى في غربة من أهله ورفيقه من هذه الدنيا كفن
يا سيدا ضحكت ملائك ربـــــه بقدومه ما أنت أول من ضغن
ياربي زده تظفـــرا وتمكــــــنا وتوقفا وتسودا ياذا المنن
كان أخي المطهر شغوفا بطلب العلم، وعرف بتواضعه وكرمه وحزمه وعلمه ودرايته. ويلحق أخي يحيى سنة 1377هـ، وقد عُرف بالحصافة وسرعة البديهة، وكان إداريا محنكا، رعى إنشاء وزارة المواصلات والاتصالات في اليمن، وبذل جهوده في شق شبكة الطرق الحديثة في اليمن.
ثم كانت أحزاني بقتل أخي عبدالله بحجة، سنة 1374هـ/1955م وكان إداريا ودبلوماسيا ذا شهرة، وله أياد في ضم اليمن إلى الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ورعاية النهضة الثقافية في اليمن.
ويتبعه أخي العباس وكان أمير صنعاء، وقتل هو الآخر بحجة، سنة 1374هـ/1955. أن أحداث سنة 1374هـ/1955م تؤلمني وأتضايق من تسجيلها، فليعذرني القارئ، وأنا في هذا العمر المتقدم من السنوات.
فقدتُ سبعة من أخواني ، الحسين والمحسن وإبراهيم وعبدالله والعباس والمطهر ويحيى، وثالثة الأثافي اغتيال والدي، وابن أخي الطفل.
أين مني الخنساء، حين مات أخوها صخر تفجرت عروقها شعرا، ولم تمنع مآقيها أن تبكيه، رثته بعشرات الأبيات، كان هذا قبل الاسلام، وفي معركة القادسية استشهد أبناؤها الأربعة، فما بكت واحدا منهم، فالشهيد لا يبكى وابناؤها لم يموتوا، بل أحياء عند ربهم يرزقون، قالت الخنساء جملة واحدة : “ الحمد لله الذي شرفني باستشهاد أبنائي، أسال الله أن يجمعني بهم في الجنة ". أما أنا فما قلت إلا ما امرني به سبحانه وتعالى :
“ واصبر على ما أصابك، أن ذلك من عزم الأمور".
وزدت قراءة من القرآن الكريم، والذي لا ملجأ إلا لظلاله إذا اشتد الكرب، وضاقت الصدور : “والذين إذا أصابتهم مصيبة، قالوا: أنا لله وأنا إليه راجعون، اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، واولئك هم المهتدون " وحدثت نفسي : النفس جانحة إلى طلب دوائها من مظان أدوائها بزمام الصبر الجميل وبه تمسكت.
أخي عبدالرحمن، حفظه الله، يواصل دراسته في الخارج، وأخي الحسن رحمه الله ، غائبا في امريكا، مندوب اليمن في الامم المتحده بنيويورك.
وقد عوضني أخي علي بعواطفه النبيلة وايمانه الصادق، الكثير مما كنت أعانيه. كنا إذا انفردنا أنا واياه بعيدا عن متاعب الحياة اليومية ومسؤولية الأسرة، أظل واياه نناقش أوضاعنا لساعات وكانت فراسته وتوقعاته وتنبآته لا تبشر بالخير.
يقول : إني أخشى عوادي الزمن، أتوقع العوادي بإدراكي العقلي ، ويسهب في تفاصيل ماكان يتوقعه، وكان بين الحين والآخر يكتب للإمام أحمد رسائل يبثها شؤون اليمن وجيش اليمن، وحال الأسرة، وذات مرة انشدني البيت التالي :
لقد أطاعك من أولاك ظاهره وقد أجلك من يعصيك مستترا
وكم حاولت أن أخرجه مما ينوء به من أفكار، فأخفق. أما هو فعندما يراني مهمومة وكئيبة، يلقي علي الكثير من اللوم، ودائما يردد : التوقع أشد من الوقوع.
ويوجه كلامه إلي : عليك الاهتمام بصحتك وصحة أولادك، بعد التمسك بحبل الله ، وكان أخي علي، يرحمه الله، يعطيني من ذخائر مكتبته ومن قصائده ما يخرجني من التأملات، فأمضى وقت في القراءة، وعندما أنظر في قصائده واحتسبها في مشاعري وفكري، تحتويني واحتويها، كنت أجد في بعض قصائده دلالات واضحة على ما يختزنه قلبه الشاعري من توقع، فقد كان يرحمه الله، عالي الإحساس الفكري بالواقع، وليسمح لي القارئ أن أضمن له قصيدة في ذكرياتي هذه، قال عنها، أمين الريحاني الرحالة الذي زار اليمن وأمضى شهورا في ضيافة الوالد الإمام.
قال الريحاني لوالدي : لولا آنني أحفظ المعلقات السبع ، لقلت أن قصيدة ولدك الأمير علي، نفثة المصدور هي واحدة من تلكم المعلقات.
عودة إلى ذكرياتي والعود أحمد
كبرت أسرتي أولادا وأحفادا وضاق بنا منزلنا الصغير أصلا فعزمنا على بناء طرحة جديدة فوقه للتوسع فاستأجرنا منزلا نسكنه حتى يتم البناء وبالفعل انتقلنا إلى بيت هاشم وكان زفاف ابنتي أمة العزيز على السيد حسين بن محمد الكبسي ثم سفرها برفقة زوجها إلى مدينة حريب. وما كان لفرحتي أن تدوم وكأن لعنة تطارد سروري تقيد روحي نحو الحياة والسعادة فإذا طارق الليل ينقر على باب بيتنا المستأجر طرقا عنيفا وبادر الأولاد لاستطلاع من الطارق الزائر في هذه الساعة المتأخرة من الليل وفوجئنا بأنه العقيد عبد الله السلال وبصحبته ثلة من العساكر. سأل السلال عن زوجي وأين هو. وكان جوابي : في غرفة نومه نائم ومستغرق في النوم. طلب مني السلال ايقاظه لأنه تحت الاعتقال وعنده امر بنقله إلى السجن. وقلت له: في الصباح إن شاء الله يكون الخير فرفض انما أصر على اصطحابه إلى حيث أمر. فأبديت له نوعا من الصلف وعدم السماح له بدخول المنزل وتصديت للعساكر وصمدت ضد محاولاتهم ولم يجرؤ أحد منهم على القيام بأية حركة يبدر منها العنف بل اكتفوا بمحاصرة المنزل من جميع الجهات وفرضوا على المنزل رقابة صارمة. وفي الصباح أيقظت زوجي وأعلمته بما حدث في الليلة الفائتة فتلقى الخبر ببرود الاعصاب. وقال: لا مانع فاني أستسلم للأمر ويقضي الله أمره فلا علم لي أن ارتكبت ما استحق معه الاعتقال. وبالفعل فقد سلم إلى باري العباد ولم تطل مدة اعتقاله واطلق سراحه وعاد سالما وقد عرفت أن سبب اعتقاله انما كان بسبب وشاية كاذبة من بعض العيون هدفها فصم علاقات القرابة وبما معناه انه ينحاز إلى المولى الحسن دون ولي العهد البدر وكانت تهمة كاذبة باطلة واثر ذلك غادرنا إلى هجرة الكبس الكائنة في مشارق صنعاء على بعد 30 كم وهي موطن أجداد زوجي. اثار اعتقال زوجي هواجسا في نفسي فقلت: لم لا ترعوي المصائب من الاسراع الي فقد امتحنت وامتحنت وصبرت وصبرت وبينما أنا في أتون التفكير فاجأتني زوجة أخي الحسين رحمها الله بزيارتي لمواساتي في اعتقال زوجي واستقصاء ما حصل وكانت يرحمها الله مسموعة الرأي يستجاب لها بين كل افراد الأسرة لحنكتها ورجاحة عقلها ولكن الغمة انقضت وما اسرعها وابطل الله أقوال المبلسين. في هجرة الكبس وضعت ولدي الصالح إبراهيم واستقبلنا قدومه بفرح عظيم وفيها احتفلنا بزواج أولادنا أولاد زوجي الولدين محمد وحسين. وفي هجر الكبس أيضا أنجبت امة العزيز وليدها الثاني خالد وفي غمرة المسرات والعائلة تزيد أولادا ونساء" وما هو إلا حين من الدهر ويصاب زوج ابنتي أمة العزيز بمرض ينتقل على أثره إلى الرفيق الأعلى. حكمتك يا رب العالمين أتضرع اليك اللهم ارزق ابنتي صبرا كما انزلته على أيوب عليه السلام اللهم زدني صبرا جميلا وكفاني أن تكون مستغاثي. وعدنا إلى صنعاء حيث كانت وظيفة زوجي وعشت وأولادي وأحفادي في بيتنا زوجي هو الاب للجميع أولادا وأحفادا ذكورا واناثا وكان عند حسن الظن ونعم الأب كان. وخلال وجودي في صنعاء برزت مخايل النجابة والجد والاجتهاد لدى ولدي حسين، كان متفوقا في الدراسة فاتصلت بابن أخي البدر محمد بن الإمام أحمد واقترحت عليه أن ينظر في امكانية ضمه إلى البعثة الطلابية المرسلة إلى العراق للدراسة في معاهدها وبعد المقابلات والاجراءات المتبعة آنذاك التحق كعضو في بعثة اليمن الطلابية في العراق.
أحداث جسام وأهوال عظام
كان الإمام أحمد قد عانى في السنوات الأخيرة من حياته من مرض الزمه الفراش مدة وعاد من رحلة علاجه في إيطاليا إلى قصره في تعز وذات ليلة من النصف الأول من شهر ربيع الثاني 1382هــــ/ سبتمبر 1962 م وصل إلى منزلي أخي علي ونعى الي الإمام أحمد وأظن أن وفاة أخي كانت في اليوم العاشر من ربيع الثاني الموافق العاشر من سبتمبر ولم يعلن النبأ إلا يوم 18 ربيع الثاني وحمل جثمان الإمام إلى صنعاء ودفن جوار مسجده الذي بناه ببئر العزب بموكب جنائزي مهيب وفي اليوم التالي بويع محمد البدر ابن الإمام أحمد اماما لليمن. أما أنا فقد أثقلني عظيم المصيبة بوفاة الإمام أحمد فهو الفارس الشجاع المهيب والكريم الجواد والشاعر الفذ وباتت الأحزان تحاصرني مرة أخرى وداهمت فكري تنبآت أخي علي رحمه الله وما خفف من هول مصيبتي وأحزاني إلا نداء التجمل بزمام الصبر وتذكرت تلك القصيدة الرائعة التي شطرها أخي أحمد أراك عصي الدمع للفارس الشجاع أبي فراس الحمداني ومنها:
ستذكرني قومي إذا جد جدها وداهمها خطب وأوعزها صبر
وتعلم أني بدر كل دجنة وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به على أن غير لا يسد به ثغر
ورب فتى لا يعدل الناس قدره وما كان يغني التبر لو نفع الصفر
وانا أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا إذا ظن بالاموال في نيلها الغمر
أعز بني الدنيا وأعلى ذوى العلا لنا الطي في ظهر البسيطة والنشر
وأعظم من في الأرض ملكا وبسطة وأكرم من فوق التراب ولا فخر
وكنت أحسب أن الأيام القادمة ربما تخيب ما كنت أتوقعه أنا وأخي علي فقد ابدى الإمام البدر نية صادقة في النهوض باليمن وأعلن العديد من الخطوات الاصلاحية الجديدة فألغى نظام الرهائن ووعد بمجلس للشورى ينتخب نصفهم وأطلق العديد من السجناء وقد مد يد الصداقة إلى العديد من الدول ومع أن للامام البدر صلات قوية مع القيادة المصرية وعلى الاخص بالرئيس جمال عبد الناصر الذي ارسل له برقية بعد أربعة أيام من دفن الإمام أحمد معزيا ومهنئا بوفاة والده ومبايعته بالإمامة كما بعث أخي المولى الحسن برقية تأييد وولاء للامام الجديد. ولاحت أمام ناظري فترة قادمة من البناء والتقدم والسلام. وبمناسبة ذكرى للرئيس جمال عبد الناصر كان أخي علي رحمه الله من المحبين للرئيس جمال عبد الناصر وقد رفع برقية إلى رئيس الجمهورية المصرية جمال عبد الناصر في 12 جمادى الاخرة
1376 هــ/ ديسمبر 1957 م بمناسبة انتصار بور سعيد جاء فيها:
الى الصحف الغراء من ارض يعرب أقدم تسليم الهنا والتعزز
هنيئا بني الاسلام أن كان منكموا رجالا توأخوا دون أي تعزز
فيا رب يا رحمن يا سامع الندا أجب دعوة أكرم بها ثم أعزز
فما شئته لا بد أن سيكونه أليست صفات الله منا بمعجز
جمال هنيئا لا لوحدك وانما لأمة الضاد دون تمركز
سيرفعك الباري بقدر الذي به تسير على هدى فدونك وأوخز
وتلقى أخي علي جوابا برقية من الرئيس جمال عبد الناصر:
رئسة الجمهورية
17/23
صاحب السمو الملكي سيف الاسلام علي : تعز
أشكركم خالص الشكر على تمنياتكم الرقيقة ومشاعركم الكريمة واني أبعث اليكم بأطيب تمنيات الصحة والسعادة.
جمال عبد الناصر
واتصل الإمام البدر بزوجي وأمره بالتوجه إلى مع عمران ليباشر وظيفته هناك وغص قلبي من القرار المفاجىء فان الأسرة محتاجون إليه جدا فهو يرعانا ويعوض أحفادي رحيل والدهم ولكن رب ضارة نافعة ولله في خلقه شؤون ففي ليلة 26/27 سبتمبر 1962 هـــــ/28 ربيع الثاني 1382 هــــ وفي حوالي الساعة الخامسة من صياح تلك الليلة سمعت دوي المدافع في مكان قريب ونهضت من نومي مذعورة لأستطلع ماذا يجري؟ وفي أية جهة، ومن أين ؟ وسمعت دوي انفجارات عنيفة من مدفعية الدبابات ثم زخات من طلقات رشاشات واستمر اطلاق النيران بقوة على فترات متقطعة ونزلت مسرعة لغرفة ابننا محمد وطلعنا إلى سطوح منزلنا فلم نتيقن شيئا سوى أنه لربما أحداثا وقعت ولما عدنا من حيث أتينا وجدنا أن الكهرباء قد قطعت والتلفون معطلا أنزلت أولادي وأحفادي إلى الطابق الأرضي وعلى نور الشموع باتوا ليلتهم.
أما أنا فما عرف السهاد طريقه إلى اجفاني ولا اكتحلت عيوني بغفوة بل كنت مصوبة نظري باتجاه أولادي وأحفادي حيث لا أدري أين سينتهي بهم المطاف وكنت بانتظار انبلاج الفجر لعلي أعرف ما هنالك ولجأت إلى مصحفي وقرأت ما تيسر من آياته التي هدأت من روعي وشدت من عزيمتي. وفي الصباح قلت للولد محمد: اذهب وتفقد أخوتك ووالدتك وأدرت مفتاح الراديو لمعرفة ما عساه أن يكون فسمعت مذيعا يقرأ بحماسة مقاطع كنت قد
تعودت عليها من اذاعة صوت العرب في القاهرة:
ارفع رأسك يا أخي , فقد مضى عهد الاستبداد
ارفع رأسك يا أخي , فقد مضى عهد الانكماش
ارفع رأسك يا أخي, فقد مضى عهد الذل والعبودية ....... الخ.
ونداءات للجيش وموسيقى عسكرية وبلاغات
وسمعت يا هول ما سمعت: لقد تم تنفيذ حكم الاعدام بأخي إسماعيل بن الإمام يحيى ثم لقد تم اعدام أخي علي بن الإمام يحيى ثم أعدم ابنه الحسن بن علي ثم لقد تم تنفيذ حكم الاعدام بالسيد يحيى بن علي الشهاري رئيس محكمة الاستئناف ثم لقد تم تنفيذ حكم الاعدام...... الخ.
فقد أعدم العشرات في اليوم الأول كوجبة سريعة وما بين الاعدام والاعلام دقائق معدودة ما أسرع المحاكمات جلسات المحكمة كلمح البرق وأعدم من العلماء والفقهاء والأعيان العديد العديد... وممن أعدم التالية أسماؤهم : السيد حمود بن عبد الملك, عبد الله عبد الكريم , حمود الوشلي, أحمد بن عبد الرحمن الشامي, محمد بن أحمد الوزير, محمد الكبسي, عبد الرحمن عبد الصمد ابو طالب, الشيخ عاطف الصلي, القاضي محمد عامر, عبد الرحمن السياغي, يحيى عبد القادر, حسين الويسي, أحمد ناجي, يحيى حسين المنصور, حسن بن إبراهيم, محمد علي زبارة, محمد ساري, محمد الغيل, ومن آل أحمد ابن قاسم حميد الدين قتلوا عبد الرحمن ابن أحمد ابن قاسم حميد الدين, أحمد محمد حميد الدين, أحمد أحمد ابن قاسم حميد الدين قتلوا عبد الرحمن ابن أحمد ابن قاسم حميد الدين, أحمد محمد حميد الدين, أحمد ابن حسين حميد الدين, وغيرهم ممن غابت عني اسماؤهم, ولما نادوا بخروج واحد إلى الميدان لقتله كان الغلط بواحد آخر فقالوا: ليس هذا فأجاب آخر: يا الله قد اسمه خرج يعني ماشي الحال ما تهم الغلطة اقتلوه. عرفت انه نودي على أخي إسماعيل راعي الايتام من سجنه واقتيد إلى الساحة وعذب ثم قتل صبرا في الساحة رحمه الله شهيدا, ثم نودي على أخي علي وأطلق الرصاص عليه أما ابنه الحسن صاحب السيرة العطرة فقد عذب بتدرج ثم أطلق الرصاص عليه بدأ الاطلاق من أسفل رجليه صعودا إلى رأسه ببطء وتأن كنوع من التعذيب بسبب حقد دفين وتصفية حسابات..شخصية.
وكان حزني على العلامة الشهيد القاضي يحيى بن علي الشهاري يعادل أحزاني على اعدام أخواني فاعدام رئيس محكمة الاستئناف يعني اعدام للعدالة أدركت عندها أن العدالة باتت شيئا من الماضي واننا بانتظار مرحلة من الظلم والاستبداد والاضطهاد اللهم ألطف بعبادك يا رب العالمين. وأدركت أن هناك تمردا وأنهم قصفوا قصر البشائر مقر الإمام البدر بمدافع الدبابات وسيطروا على الاذاعة ومخازن قصر السلاح. عاصفة جديدة هبت علينا ولكنها هذه المرة محكمة فالاصابع المصرية ظاهرة للعيان وعاد الولد محمد بعد استطلاعه وعند باب منزلنا منع من الدخول فقد أحاطت بمنزلنا عساكر من كل ناحية ومصفحة بمدفع رابض فوقها على مقربة من باب دارنا ومنع الوصول الينا ولا حتى خروج أحدنا وسألناهم : لماذا تحاصرون منزلنا. تقدم ضابط متحمس وقال: أن أولاد أخوتك مختفون عندكم وهم مطلوبون فأبلغتهم: ليس عندنا احد ومنعناهم من دخول البيت. وللتو أقاموا ثكنة عسكرية مدججة بالسلاح الآلي والخفيف والمصفحة رابضة للحيلولة دون هروب أحد من أبناء أخوتي كما كانوا يتوهمون ولم يكن في بيتنا ساعة حصارهم سوى أولادي وأحفادي وبناتي ودام الحصار أياما وبعد أيام وفي ساعة متأخرة من الليل وصلت إلى منزلنا مجموعة من الضباط ترافقهم قوة عسكرية رديفة. تقدم مني أحد الضباط وقال: يطلب اليكم اخلاء البيت. فقلت له: لأي شيء فهذا بيتنا ملكنا وهو ليس من بيوت الدولة وما في البيت إلا أطفال الصغار والبنات وبعض الأولاد ورجالنا لا ندري أين هم فأجاب والغضب يبدو على وجهه: الاوامر التي طلب الينا تنفيذها فورا تقضي بضرورة اخلاء البيت ونقلكم إلى مكان آخر. فقلت له: والى اين إن شاء الله. قال الضابط الحانق: لا أدري المهم يجب اخلاء البيت ونظر إلى عساكره ومصفحته. دخلت إلى غرف الأولاد والأحفاد والبنات فرأيتهم غارقين في نوم عميق. وصممت على عدم ايقاظهم مهما كانت النتائج ولينفذ الله قضاءه وعدت وكأن زلزلا يضربني من كل جانب أنفاسي ملتهبة واوداجي محتقنة وامارت التحدي بادية على ملامحي فقلت للضابط: الأولاد نيام ولن أوقظهم في مثل هذ الساعة المتأخرة من الليل إذا أردتم فخذوهم وأيقظوهم رغما عني بالقوة وتراجع الضابط إلى الوراء وأطرق رأسه ونظر إلى الأرض بنظرات كأنها حزينة كسيرة لعل شهامة ونخوة رجال اليمن قد هبت عليه فذاب خجلا من نفسه
وقال: اذن ماذا ترين الحل؟
فقلت: حراستكم مشددة وصارمة علينا ومراقبتكم والحمد لله دقيقة ولم يتبق سوى سويعات وتهل تباشير الصبح وفي الصباح سنكون جاهزين باذن الله تعالى. وأقر أن الضابط قد استجاب وقال: اذن ننتظر حتى الصباح وفي الصباح أيقظت الأولاد والأحفاد والبنات وعلى عجل طلبت منهم أن يتأهبوا فظن الأولاد والأحفاد أن الفرج قد اقترب كانوا يتراشقون الابتسامات وعيونهم تلمع طفولية صادقة لا دمعة هاملة ولا الأرض تضيق إلى مدارسهم لبسوا وأكلوا من الطعام أقله. عمدت إلى كبت احزاني وانما نفسي تلومني لوما قاسيا وسألت نفسي: لماذا أنجبت يا تقية. ما كان اغناك عن الانجاب ما ذنب هؤلاء الأولاد حتى يتعرضوا لكا هذا الذل والقهر. كانت أسرتي الصغيرة مكونة من ثمانية , لملمت أشلائي وتحاملت على نفسي وناديت العاملات والمساعدات والشغالات وحين تحلقن حولي قلت لهن: اسمعن يا بناتي لم يبق لكن خير في مصاحبتي فالأمور كما ترين . غدت يدي فارغة فقد استولوا على كل شيء وانتن لكن مطاليب لمواجهة أعباء الحياة والله لا ينسى عباده ورزقكن على الله. وانكفأت العاملات على انفسهن كل واحدة تغطي وجهها بيدها وتبكي بكاء" حارقا وانصرفت مودعات حزينات. بعد أن قبلن الأحفاد والبنات. وكان وداعا لا زالت آثار جروحه تنكأ عروق قلبي حتى الساعة غير أن واحدة منهم تعلقت بي ورمت بنفسها على صدري تبكي بحرارة وحرقة وقالت: ستي لا اريد شيئا اريد البقاء فقط معكم عشت في بيت الخير والعز ولا اريد مفارقته والله يرحمنا برحمته كانت من المحويت شريفة بأخلاقها وفية بطباعها. وتهيأنا لمواجهة قدرنا انتظم العساكر في صفين طويلين وكانوا متأهبين مستعدين بنادقهم مصوبة وأصابعهم على الزناد اتخذوا حالة الجهوزية وغيرهم اعتلى السطح للمراقبة عيونهم محدقة تلتفت في كل اتجاه وغاضني رامي المدفع فقد قفز إلى مصفحته وأهب مدفعه واستعد. وسار جمعنا من بين الصفين وضحكت في قرارة نفسي هل يخشى هؤلاء العساكر من القنابل التي تلقيها أنامل الاطفال الصغيرة الناعمة ما تراهم ظنوا بأن مفاجأة تنتظرهم ونستولي على سلاحهم وصعد أولادي وأحفادي وبناتي وأنا إلى عربة عسكرية محكمة الاغلاق اعدت لنقلنا لجهة مجهولة وتحرك الموكب الاسير وواصلنا سيرنا في اختراق شوارع صنعاء تحت الحراسة من الأمام والخلف لا ندري إلى أين المصير ولاحت مني التفاتة فإذا نحن بقرب دار بستان الخير وهو من بيوت أخي الإمام أحمد رحمه الله وتوقف الموكب وفتحت بوابة القصر لأجد أعدادا كبيرة من عساكر الجيش موزعة في ساحة بستان الخير وعند اسواره, وخلف الاسوار وعند برجه واقتادونا بحذر ويقظة وأصعدونا ادراج بستان الخير ولشدة ما رأيت فإذا الغرف مملوءة بنساء وعوائل آل حميد الدين أمهات وأخوات وزوجات وبنات واطفال وأولاد آل حميد الدين كنا أكثر من سبعين أسرة وتجاوز عددنا المئة. واذا بهم قد اعتقلوا كافة الاسر: النساء والاطفال والأولاد في الليل وأخليت كافة منازلنا كلنا خرجنا بملابسنا وبعض اغراضنا الضرورية وبقيت منازلنا وبيوتنا خالية عرضة للنهب والسرقة المنظمة وقد نهبت وسرقت كما عرفنا فيما بعد وقد جعلوا من بستان الخير معتقلا لنا وعلمنا فيما بعد أيضا انهم جعلوا من قصور الإمام أحمد في تعز معتقلا لعوائلنا هناك ولم نكن على اتصال بهم ولا نعلم من أمرهم شيئا ويبدو أن اهالي تعز من عساكر وضباط وقد عرفوا الإمام أحمد وكرمه وجوده وشهامته كانوا احسن معاملة من حراسنا واقل فظاظة من المجموعات التي تولت امر اعتقالنا وعلمنا أن الحراسة في تعز كانت فقط للمرافقة عند الخروج والدخول وليس للتشديد وتنفيذ الاعتقال فالتعليمات عند الضباط والعساكر هناك المعاملة بكل اللطف والاحترام فقط لمنع الهروب أو الاختفاء بدون إشعار من في قصور تعز من عوائل واسر آل حميد الدين انهم رهن الاعتقال. أما نحن في صنعاء فقد قطع الاتصال عنا فالتلفونات ميتة لا حرارة ولا حراك لها ولا ندري عن العالم الخارجي شيئا لا رسالة ولا جواب ولا خروج ولا دخول رقابة شديدة دائمة وتبديل مستمر للعساكر حتى الاطفال منعوا من الدراسة ورفضوا السماح لأي طفل بالخروج إلى المدراس وتسامع الناس في صنعاء خبر اعتقالنا في بستان الخير فوصل بعض المشايخ الذين سمح لهم بالعبور إلى ساحة معتقل بستان الخير يسألون عن احوالنا وما نحتاج إليه بدواعي الشهامة والنخوة التي اجترحت في عروقهم وعاداتهم اليمنية بسبب: اعتقال نساء واطفال وأولاد واحتراما ووفاء" لأهلنا ورجالنا واتفقنا كلنا في المعتقل على عدم طلب أي شيء من الأمور المادية وانما طلب شيء واحد فقط وهو: طلب مدرس لتعليم الأولاد وكان التعليم هو مطلبنا الوحيد ولكن ما استجاب المتمردون لطلبنا ولا لرجاء المشايخ. وذات يوم نهارا وصل ضباط يبدو عليهم انهم محققون أو ثوار واستدعيت لاقابلهم وحين وقفت امامهم بادرني احدهم بالسؤال: اين زوجك ؟ فأجبته: لا علم لي ولا أدري اين هو انتم الادرى والاعلم فنحن مقطوعون عن العالم وممنوعون من سماع الاخبار وفوجئنا باسلوب آخر يزيد فظاعة عما نلاقيه حتى الآن. جاءوا الينا وعرضوا علينا الرحيل إلى مصر ورغبونا بذلك وبأننا سنلقى معاملة طيبة كريمة هناك ستخصص لنا منازل ومصاريف ويذهب أولادنا إلى أحسن وأرقى المدارس هناك وسيكون الترحيب بنا حارا. فرفضنا كل ذلك وابدينا اصرارنا في البقاء في اليمن نتعلق بزمام الصبر على المعاملة السيئة والقاسية من قبل معتقلينا ولا نرحل لنكون رهائن عند النظام المصري والخير فيما اختاره الله. وقد عرفنا فيما بعد أن هذا الاقتراح كان رغبة من السادات ليرحلنا إلى مصر ونحتجز هناك ولكن يمنع سفرنا كنوع من الضغط على رجالنا أو مبادلتنا فيما بعد. ومن طريف ما يختزن في ذاكرتي عن ايام اعتقالنا في بستان الخير أمور مفرحات مبكيات فقد نفذ مخزون طحين الحنطة الموجود أصلا في مخازن بستان الخير بعد مدة واعلمنا الضابط المراقب المسؤول عن حراستنا بعدم وجود طحين وبالتالي انعدام الخبز فكان رده: اجهزوا على الشعير والذرة وكنا قد آلينا على انفسنا أن لا نكلم اي رجل من الحراس وغيرهم وكلفنا اثنتين من العاملات كلما استوجب الامر فقالت احدى العاملات: أن صغارنا غير قأدرين على أكله فأرسلوا لنا ما يكفي الاطفال أما الكبار فنحن نأكل خبز اي شيء كان فتجاهل طلبي ومضى في طريقه وانصرف فقامت احدى النسوة من بناتنا بجمع ما تقتنيه من ذهب هدايا عرسها وفضتها وشيئا من ثيابها وبعض العبي وخواتمها واقنعتها بقصد بيعها وشراء أو استبدالها بشيء من طحين الحنطة. وذاعت هذه القصة بين العائلات والاسر اليمنية القريبة من معتقلنا وماهي إلا يوم أو بضع يوم حتى شاهدنا جمعا من نساء يمنيات قد تدافعن عند بوابة بستنا الخير رغم الحراسة والتشدد في المراقبة واقتحمن البوابة إلى ساحة بستان الخير الخارجية وهن يحملن على رؤوسهن التويرات, وهي أوعية مصنوعة من الحنطة . نساء صنعاء قمن بعجن الطحين وخبزه واقتحمن علينا بعشرات التويرات لاطعام اطفالنا الخبز فنظرت إليهن وأنا فخورة وقلت: بارك الله باليمن رجاله ونساؤه فهم أهل النخوة والشهامة والعزة والكرامة. تركت هذه الحادثة أثرا عميقا في نفوسنا فالدنيا ما زالت بخير والخير فيها إلى يوم القيامة وكل ذلك رغم الدعاية المسموعة والشتائم التي تذاع كل صباح ومساء الطاغية الظالم القاتل ورغم الاجراءات والتعقيدات التي تعرض علينا.
فلله يا أهل اليمن كم من الخصال الحميدة قد تأصلت في نفوسكم يا أهل النخوة التي لا يعرفها إلا من عاش في اليمن وجرب أهل اليمن. وسرى الخبر في صنعاء وجاء إلى ساحة بستان الخير جماعة من المشايخ للاستفسار عن معاملتنا وليتأكدوا من ادعاءاتهم بأنهم يعاملوننا المعاملة الانسانية اللائقة بنا. وكان الغضب والتأثر والحزم باديا على قسمات وجوههم وتصارخوا في ساحة بستان الخير والله لنقلبها من هنا إذا كانت معاملة عوائل آل حميد الدين سيئة وأضاف احدهم: أن سكوتنا عن الثورة وعدم اثارة القلاقل في وجوههم لن يكون إلا بحسن معاملة عوائل آل حميد الدين. واثر ذلك ولاسكات اهالي صنعاء والمشايخ سمحوا لخالي إسماعيل غمضان تزويدنا بالحنطة والخضار والالبان وكافة ما يلزمنا وكان بداية الانفراج علينا. وكان لنا جزاء من نوع آخر ولكنه ما أثر علينا واستقبلناه بالهمة والاستخفاف من قرارهم فقد أصدروا امرا بسحب الخادمات الموجودات عندنا ومنعت بعضهن حتى من الدخول الينا هؤلاء الخادمات كن وفيات لا يردن أجرة ما يبغين سوى مساعدتنا في محنتنا وما كان من ضباطهم إلا أن طردوهن شر طردة ومنعوهن من الاقتراب حتى من بوابة معتقل بستان الخير. وكان عدد المعتقلات والمعتقلين من النساء والاطفال قد بلغ مئة وثلاثين فردا. ولم يكن لفعلتهم هذه أي تأثير علينا إذ بادرت النساء إلى تقسيم العمل بينهن من طبخ وتنظيف وكنس وجلي وعناية بالاطفال وكانت بناتنا ماهرات في اعداد الطعام وكانت وجباتنا على الاغلب جماعية نجتمع عادة على وجبة الغداء فإذا انتهينا من أمورنا المنزلية نجتمع لتدراس أحوالنا وما نلاقيه وكيف يجب علينا التعامل مع هؤلاء الذين لا يرحمون طفلا ولا فتاة ولا امرأة ثم يكون قراءة القرآن الكريم وتتولى احدانا شرح وتفسير ما أشكل فهمه وندعو الله أن يمن علينا بالفرج والشدة كلنا مجتمعين صلواتنا جماعة درسنا جماعة. أما السهر في الليل فلا يكون حيث تقع علينا وسائل الانارة وخيرا فعلوا ننام مبكرين ونصحو للصلاة وقراءة الواجبات الشرعية بصورة جماعية. ولا اخفي أن اجواء المحنة انعكست إيجابيا على علاقتنا مع بعضنا البعض فتعلق كلنا بكلنا وزادت محبتنا وحرصنا على بعضنا البعض فالألم واحد والأمل واحد وشعرنا بأننا الاقوياء وهم الضعفاء فليس من الشهامة العربية والاسلامية معاقبة من لا ذنب لهم فالعقوبات الجماعية هي من افعال القراصنة واللصوص والعصابات حتى قطاع الطرق فان بعضهم يأنف من التعرض للنساء والاطفال. ما عرف تاريخنا الاسلامي لا في عهد الصحابة ولا عهد الخلفاء الراشدين وطوال تاريخنا في عهد الائمة وعهد والدي وأخي أن سجنت أو اعتقلت امرأة يمنية لأسباب سياسية حتى وان ظهر عداؤها لنظام الحكم النساء عندنا هي شرفنا ومدار عزنا دون كرامتهن وشرفهن وعرضهن تهون الانفس والاموال. وقضينا سنة أولى في معتقل بستان الخير
سنة أولى في معتقل بستان الخير:
وأصبح اعتقال عوائل آل حميد الدين في بستان الخير حديث مقايل ومجالس أهل صنعاء فقد لاكت الالسن السجانين وتبرم الناس من سوء افعالهم واسمعوا الكثير من النقد فأبلغونا : بالسماح للأولاد بالدراسة بعد ضياع سنة من أعمار الأولاد وتوالت الاذونات فقد سمحوا لأخوالي بزيارتنا في حوش معتقل إبراهيم وقاسم بزيارة ابنة أخيهم التي هي ابنتي وقيل لي يومها:
ان أولاد الوزير إبراهيم وقاسم هم من طلب من عبد الله السلال تعيين مدرس للأولاد فقد كانت علاقتهم بالسلال قوية إذ أيد كل من إبراهيم والقاسم الثورة في البداية ولما ايقنوا سوء المآل انقلبوا ولحقوا بأل حميد الدين في الخارج وسمح لأولادنا بالدراسة وخصصت غرفة مقابلة لمعتقلنا للتدريس وجاء المدرس بالفعل ولكن تحت الحراسة والمراقبة. يباكر الأولاد في الذهاب إلى الغرفة وقد استعدوا فيتسلمهم العساكر المدججين بالبنادق والرشاشات ويفتشون وتفتش حقائبهم أو اكياسهم ويدخلون إلى صف المعتقل الدراسي والعساكر تطوق الغرفة عند كل شباك وقف عسكري كانت مدرسة تحت السلاح أولادنا يتلقون العلم في هذا الجو المخيف المقيت ولكن مهما كانت الاحوال فالأولاد لا بد أن يتعلموا وكان مدرس أولادنا شهما ساءه ما كان عليه حال المدرسة التس يدرس فيها فتبرع بايصال رسائلنا إلى أهلنا ولم نعدم الوسيلة لاخفاء الرسائل مخافة أن تقع في ايدي الرقباء وبالفعل فقد تسلمنا العديد من الرسائل عن طريق ذاك المدرس الشهم ونجحنا في ايصال شيفرا خاصة بنا إلى رجالنا في الخارج وبدأت الرسائل المشفرة تصل الينا. وداوم أولادنا على الدراسة وبعدها يسمح لهم بالتجول أو كما يقولون: فورة السجن في الحديقة ولكن أيضا تحت الحراسة ثم يعودون إلى المعتقل قبيل المغرب وكان ولدي عبد الله يتأخر وأقلق عليه وأذرع الساحة ذهابا وإيابا سائلة عنه أو منتظرة له فيطول تأخره وكان يدور في فكري أن هؤلاء يمهدون لاحتجازه في سجن آخر طالما أن والده قد نجا ولما يحضر متأخرا كنت أسأله عن سبب تأخره فيقول لي: تأخرت عند الضباط فازداد خوفا عليه ولكن ما حضر إلا وهو محمل بأنواع الحلوى ويروي لي أقاصيص عن طيبة ذاك الضابط ولما حاولت معرفة اسم ذلك الضابط يجاوبني: أنا لا اعرف. وفي إحدى اليالي قطعت الكهرباء بسبب طارىء ولفنا ظلام دامس وكنا قد نزلنا إلى غرفة الشاذروان فالماء فيه متوفر وأسرتي وأولادي وأحفادي وبناتي الأكثر من باقي عوائلنا . وللظلام وحشة وما هي إلا بضع ساعة حتى سمعنا على باب الشاذزران قرعا فقلت لعبد الله : أنظر من القارع ولما استفسر منه وعرفه فتح الباب فإذا بالرجل يعطيه فانوسا مضاء" وسألت من هذا الذي حل لنا مشكلة الظلام أجاب: هذا هو نفسه حقي الضابط. يا الله الضابط أصبح حق ولدي عبد الله فطلبت إليه أن يسأله عن اسمه فقال: أنا فلان وقد سبق لي مرافقة والدك وبقيت أنا وأخي عند والدك ضيوفا بيننا عيش وملح وواجبكم علي أرد به بعض معروف والدك فعل هذا الضابط الشهم أعاد إلى نفسي الثقة الدنيا ما زالت بخير. وتطل الكوارث مرة أخرى ولكن حذاري من الضعف والانهيار يا تقية. كنت لا اعلم مصير زوجي وعرفت فيما بعد انه رافق الإمام البدر إلى المملكة العربية السعودية وبحثوا عنه طويلا وكثيرا سألوا عنه كل من له اتصال به فما وجدوه ولا عرفوا عنه شيئا ومن ثم استنطقوني عنه فما أفدتهم بكلمة واحدة بل تركتهم حيارى ولأنه سلم وبدا له نشاط في الخارج ضدهم فانتقاما منا ارسلوا دبابات إلى هجرة الكبس لهدم منزلينا اللذين بنيناهما بأموالنا امعانا في سياسة العقاب الجماعي وقامت الدبابات بما يلزم بقذائف المدفعية ولما كان أساس البيت متينا فلم تتمكن من تسوية أساساته بالأرض وهو ما يريدونه وحتى لا نقوم ببنائه مستقبلا ارسلت طائرة وقامت بدكه دكا عنيفا وانتصروا على حائط برلين. وذات ليلة سمعنا دربكة مزعجة وخطى ثقيلة على السلالم والادراج فنهضت مسرعة إلى الباب الرئيسي فرأيت عساكر تجري هن وهناك وتتدافع وكأنهم يوم الحشر مدججين بالاسلحة يتراكضون وكأنهم يبغون صيدا ثمبنا فاعترضت طريقهم مذهولة ماذا تريدون؟ لماذا كل هذا الازعاج في الليل، الكل نائم، فمالكم كأنكم في خضم معركة. فقال ضابطهم: أين الراديوهات . تنفست الصعداء وعرفت أن في الامر شيئا. قلت له: في امكنتها ظاهرة وليس مخفية لماذا تريدونها وبدون أن يجيبني أمر الضابط رجاله بجمع كل الراديوهات واحضارها إليه وبسرعة جنونية تخاطف العساكر كل الراديوهات من غرفنا كأنها غنائم حرب وأخذوها وولوا مدبرين. ولم يحتج ما فعلوه إلى شيء من التفكير فما صلة الراديوهات باعتقالنا سوى أنها تنقل أخبارا لا يريدون لنا أن نسمعها وغمرتني موجة من الفرح ووزعت ابتساماتي على بناتنا وأولادنا وأطفالنا والذين لم يعودوا يضطربون أو يخافون من مثل أفعالهم هذه. وقدرت أن قواتنا الملكية ألحقت بهم هزائم وخاصة بالقوات المصرية التي وصلت لمساندتهم بعد أيام قليلة. هم لا يريدوننا أن نسمع أخبار هزائمهم التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية ونظرت إلى السماء : الحمد لله فإن الفرج قريب يا رب العباد. وفي اليوم التالي: وصلوا إلينا في النهار وبدأ الضباط بحديث لطيف ودود. قال أحدهم: نحن لا نريد سوى راحتكم ولا نريد أن تظلوا على هذه الحالة فلماذا لا توافقوا على السفر إلى القاهرة.
وأضاف: لقد أبلغونا في القاهرة بأنكم ستكونون ضيوفا أعزاء وستلقون كل معاملة كريمة فأخوانكم من عوائلكم الذين كانوا في تعز سافروا ولاقوا أطيب معاملة من المصريين وسهلت لهم كل الأمور. فكان الرد: نحن لا نوافق على السفر ولا الترحيل نحن في بلدنا وهل ينفى اليمني من وطنه اليمن.
كنت أشعر بأن كلماتي تلامس وجدان الضابط فما عاود الحديث وإنما كان يطرق إلى الأرض بين الفينة والفينة وينظر الي بحسرة ظاهرة. دار بخلدي أنهم يريدوننا رهائن أو يعتبروننا أسرى ومن خلالنا يمارسون الضغط النفسي على رجالنا وهذا كله بتدبير من سادتهم قادة مصر وعلى رأسهم أنور السادات والذين ورطوهم في حرب ما كان لهؤلاء الجنود المصريين فيها من ناقة ولا جمل. ولما يئسوا من اقناعنا عادوا من حيث أتوا وعلائم الانكسار بادية على وجوههم. ثم كانت الغارة العشوائية المفاجئة مرة أخرى ، وكانت أخبار ما يسمونه "التفتيش المكثف العشوائي " قد سُرِّبت إلينا من بعض العساكر جزاهم الله خيرا ، فقد أبلغوا إلى أولادنا وخاصة عبد الله: ياعبد الله ، أبلغ أهلك بأنهم يعدون الليلة لهجوم مكثف عشوائي عليكم ، سينبشون كل شيء ، وسينثرون كل شيء ، الأسرة ، الخزانات ، الصناديق ، المطابخ ، الدواليب ، الملابس والفراش ، التفتيش سيكون دقيقا وحازما .
وأخذنا حذرنا مسبقا ، وأعددنا للأمر عدته ، فكل ما عندنا من ذهب أو فضة أو نقود أخفي ما بين ملابسنا الشخصية التي كنا نرتديها ، وما عدا ذلك فلا شيء ، سوى "ديواني" سفينتي التي كنت أنقل إليها أشعار أخواني وأشعار عمي حسين عبد القادر وفيه قصائد غزلية.
كان مصدر خوفي تلك القصائد الغزلية ، فماذا لو سيطروا على ديواني ، وما الذي يمنعهم من التعريض بنا ، فأسرعت إلى الديوان ، وغطيته بكيس قماش صغير ، وقلت لولدي عبد الله أسرع إلى الضابط حقك ، وقل له هذه الوديعة أمانة الله أن يحفظها ، فإن عشنا يرجعها إلينا .
وبالفعل ؛ خرج عبد الله مسرعا ، فقد قطع درجات السلالم بقفزات محدودة ، وسلمها للضابط ، حيث قال له ذاك الضابط الشهم ، يا ولدي عبد الله ، أبلغ والدتك أنها بإذن الله في الحفظ ، وهي أمانة في عنقي ، سأحافظ عليها كما أولادي وروحي. وعاد إلي عبد الله فرحا ، وأبلغني ما قاله ذلك الضابط اليمني الأصيل.
واستطرادا ؛ فإن ذلك الضابط احتفظ بالوديعة ، وبعد سنوات دعا الولد إبراهيم بن محمد الهجوة لضيافته ، وأكرمه بضيافة خاصة ومقيل وقال له : عندي أمانة للوالدة تقية ، أريد أن أُبرِئ ذمتي منها ، وسلمه الأمانة قائلا : الأمانة محفوظة على رباطها كما هي. رعاه الله وزاد من أمثاله من رجال الأمانة ، وبعد سنوات سلمني الولد
إبراهيم بن محمد الهجوة الأمانة عندما التقينا في أمريكا.
كان هذا الدفتر وما زال من أعز الأشياء إلى نفسي ، فيه ذكريات لي إبان طفولتي ، وأحداث وطرائف كانت لي مع والدي ، وأشعار لأخواني وخاصة أخي علي ، إذ كان يرتجل الشعر أحيانا وهو في زيارتي أو ونحن في داره ، فأُسرع إلى دفتري وأسجل ما ارتجله ، ومنها الكثير ، ومنها بعض الأشعار التي يجود عليَّ الله بنظمها في ساعات خلوتي إلى نفسي .
الطلعة البهية للبقرة
سلَّم الله ديواني من عبثهم وتفتيشهم العشوائي المكثف ، وكانت له فرحة ، غير أن فرحي لا يدوم كما تعودت .
فمنذ أيام لم يعرف أطفالنا طعم الحليب ، وفيهم الصغار الذين يحتاجون إليه في هذا الوقت المبكر ، وبدأت شكوانا ترتفع ، نريد حليبا للأطفال ، ولا من يسمع ، وعاودنا الشكوى ثانية ، وثالثة ، ورابعة ، ولا أدري ما تم ، ففي صباح أحد الأيام ، دخل عساكر على حوش معتقل بستان الخير وهم يسوقون عدة بقرات ، ونادوا علينا ووزعوا الأبقار الحلوب على عوائلنا ، وكان نصيب عائلتي بقرة حمراء ، دقيقة رشيقة ، فرحبت بها ، وكانت بقرتنا تصعد السلم ، ما أجمل طلتها ، جاءت بقرتنا لتشارك في اجتماعاتنا ، أما فضلها بالحليب فكان مدرارا ، وما بخلت عليّ.
ولا أدري أن كان كرما منهم أو كرم شيوخ اليمن ، فقد سمعوا بنقص الحليب عند أطفالنا ، فتبرعوا بتلك البقرات ، إنه كرم من الله سبحانه فقد منّ علينا بنعمه وفضله ، لقد سلّمنا أمرنا لله تعالى ، ورضينا بمشيئة الله وقدره ، ورضينا الاعتقال في بستان الخير وفي حي التقى ، قصر أخينا الإمام أحمد ، رحمه الله ، كان هذا القصر مشرع الأبواب لاستقبال كل مظلوم أو مستغيث أو محتاج ، كان باب خير لكل من عرفه ، فحولوه إلى معتقل لأهله وسجنا لأطفاله الأبرياء.
ولكن مصدر صمودنا وقوتنا ، اعتمادنا على الله سبحانه وتعالى ، وعلى تعاطف أهل صنعاء معنا ، ثم مواقف الشيوخ الشرفاء الذين ما سمعوا بمظلمة أو شكوى أو ضيق لحق بنا إلا هبوا مستنكرين ومتوعدين .
لكني لا أخفي ، لقد أمضينا في معتقلنا أياما طيبة ، وإن داخلها الحزن ، وعندما كنت أقف على مفرج بستان الخير ، أتذكر أبيات الشعر التي قالها أخي علي عند الانتهاء من بناء المفرج في 18شعبان 1357هـ ، قال:
يا مفرجا في الجمال آية ... ومربع الفضل والهداية
تخال من تحته المباني ... كالجند تصطف حول راية
بناه من لا يقوم عمري ... له بمدح ولا سوايه
وتنهدت وأجلت ناظري في أفق صنعاء ، وانحنيت أرى الناس في شوارعها ، وارتسم أمامي صورة موكب والدي في الدورة اليومية، واستعراضات العرضي ، وموسيقى الجيش ، ورن في أذني الصوت الرخيم لعمي حمود الشمسي ، مؤذن الإمام ، واستفقت من هيامي وشرودي لأرى نسوة وأطفالا وأولادا معتقلين وتحت الرقابة ، وتفنن في الإزعاج والإرهاب.
فقلت أيها النازحون عنا ، عودوا إلينا ، فمكانكم مهجة القلب ، ومقلة العين.
أيها الراحلون عنا ، قد سلبتم منا الروح ومزقت الجسد ، ولم يبق إلا الدموع تجري كأمواج البحر.
لعلي أكون كالطير فأطير ، ولكن كيف يطير الطير وقد هاض منه الجناح ، وانحدرت من عيني قطرات دمع حارقة لاهبة، واستعذت بالله فقلت: تجملي بالصبر يا تقية ، أن ما عند الله قريب ، فرجه أقرب من حبل الوريد ، ونزلت أدراجي أجرُّ كلي جرا.
وتمضي السنون ، وتتعاقب التفتيشات والمضايقات والإزعاجات في النهار والليل ، حتى كانت أواخر سنة 1385هـ / 1965م ، فإذا بخبر مفرح يصل إلينا ؛ أبشروا فإنه سيجري تبادل الأسرى بين القوات الملكية من جهة والقوات المصرية والقوات الجمهورية من جهة أخرى ، وعرفنا أن رجالنا وقبائلنا قد حققت انتصارات في ميادين القتال.
وجرى تبادل الأسرى بواسطة الصليب الأحمر الدولي ، ليشمل كل المعتقلين من رجالنا في قصر غمدان ، وبالفعل فقد أفرج عن الأولاد ، محمد بن القاسم ، وعلي بن علي ، وعلي بن إبراهيم ، ومحمد بن عبد القدوس ، وأولادنا الصغار المحتجزين معنا وغيرهم ، وكان عدد المفرج عنهم ثلاثين شخصا ، وكان من ضمنهم ابنتي الصغيرة رجاء ، ولم يسافر من النساء غيرها ، وسبب قبولي بسفرها أنها كانت تعاني من التهاب باللوزتين بحيث أثر المرض على صحتها وظلت في مرض دائم ، وكنت أخاف عليها. أما وقد وصل حال ابنتي لما هي عليه ، ولابد من إجراء عملية جراحية لها ، فقبلت التضحية ببعدي عنها إنقاذا لحياتها.
وبالفعل فقد سافر المفرج عنهم بطائرة الصليب الأحمر الدولي وتحت إشراف الأمم المتحدة ، فوصلوا إلى جدة ومنها إلى بيروت ، وعلمت أن العملية أجريت لابنتي بنجاح والحمد لله .
وأدخل الأولاد المدارس ، فدرسوا في مدرسة المقاصد الإسلامية بداية ، ثم قام مندوب الصليب الأحمر الدولي بزيارتنا في معتقلنا، وسألنا عن حالنا ، وما نلاقيه من معاملة ، وأبدى استعداده لتوصيل رسائلنا إلى أهلنا للاطمئنان ، وكان يرافق مندوب الصليب الأحمر الدولي العقيد شوكت المصري ، وضابط آخر يمني .
لقد أثارت مرافقة العقيد شوكت المصري عدة تساؤلات عندي ، تأكدت حينها أن الأمور بيد الضباط المصريين وما الضباط اليمنيون إلا للتنفيذ.
وأدركت عندها سبب حسن معاملة عوائلنا المحجوزين في معتقلات قصور الإمام أحمد ، وسوء معاملتنا في صنعاء وكثرة التضييق علينا وإزعاجنا .
كان سبب ذلك كما قدَّرتُه ، أننا في صنعاء كنا تحت حكم وإدارة المصريين مباشرة ، فمارسوا أساليبهم في الضغط والإزعاج والتهديد بالترحيل ، ومنع الخروج والدخول ، والعساكر تحيط بالمعتقل من كل جانب ، وتفتيش مكثف ، وهجمات ليلية عشوائية ، ومحاولة حرماننا من الخبز والحليب والطعام إلا ما خشن وصلب. أما في تعز فكانوا بعيدين عن عيونهم ، فكانت معاملة أهلنا في تعز -وهم الذين خبروا الإمام أحمد والأخوان- طيبة ، وما أشعروا عوائلنا بأنهم في معتقل أو إقامة جبرية مفروضة
وجاءت أول قطرة من غيث الفرج ، فقد أوصل لي مندوب الصليب الأحمر الدولي ، رسالة من ولدي عبد الله ، لازلت محتفظة بها حتى الآن ضمن أوراقي ووثائقي ، نصها:
صورة الرسالة من الولد عبد الله بواسطة الصليب الأحمر الدولي في 3 رمضان
سيدي الوالد العزيز الغالي الحنون أحمد حميد الدين ، حماكم الله
بعد التحية والاحترام
أبعث إليكم أحر الأشواق ، أرجو من الله لكم دوام الصحة والعافية مع أخواتي العزيزات ، أحرر لكم وإحنا في البيت معنا فرصة ، سبق أن حررت إليكم قبل هذا بنظر والدي إن شاء الله وصل ، ولم قد عاد لي جواب عسى أن يكون المانع خير . وأبارك لكم دخول شهر رمضان الكريم أسأل الله أن يدخله على الجميع باليمن والبركة.
أهدو تحياتي لأختي أمة العزيز وأخواني جميعا ، وأيضا أمي تقية ، وسيدي شرف الدين ، وسيدي يوسف ، وأختي أمة الغني وأختي خديجة وجميع من لديكم ، وعماتي من هنا يسلمن عليكم ، عمتي أمة الرحمن وعمتي أم هاني الحسين ، وأخوتي في خير ، ويسلموا عليكم.
والسلام
ولدكم المشتاق عبد الله
استبشرنا خيرا بالإفراج عن أولادنا الذين كانوا معتقلين في قصر غمدان ، وأصبح أملنا قريبا بعد زيارة مندوب الصليب الأحمر الدولي لنا ، وهانحن قد أمضينا قرابة ثلاثة أعوام وبضعة أشهر، ونحن بين فظ المعاملة في أغلب الأحيان ، ولينها ، وخاصة بعد تدخل الصليب الأحمر الدولي ، وساءت حالتي الصحية إثر إصابة لحقتني ، نتج عنها انزلاق غضروفي بعد أن وقعت عن السلالم في المعتقل ، وازدادت الحالة ، فأحضروا طبيبا روسيا اسمه روسي ، ولما عاين إصابتي ، ألزم بضرورة إجراء عملية جراحية عاجلة ، وحيث أنهم لا يريدون علاجي في اليمن ، لعله لأسباب فنية طبية ، مما مهد لبعض الأصدقاء بالتعاون مع ابنتي فسمحوا لي ولبناتي بالسفر
السفر ورحلة العذاب
ووقعت في مشكلة أخرى ، فما تعودت السفر إلا في صحبة آمنة ، أو مع محرم، وكتبت لخالي إسماعيل غمضان أنقل إليه ما توصلنا إليه ، وكان رده كما توقعت منه إيجابيا ، ووافق على مرافقتي وبناتي في السفر ، وحين حصلت الموافقة أبلغناهم بتيسر أمورنا ، وظهر أمامي عائق آخر ، فقد استدعي خالي إلى الجهة المسؤولة عندهم. وبعد أخذ ورد ؛ أخذوا على خالي إسماعيل كفالة وتعهد ، بمقتضاها إلا نمكث في بيته إلا يومين اثنين فقط ، تحت طائلة العقوبة والحبس ، ووقع خالي على التعهد ، وقدم الكفلاء ، وجاء إلينا وقد تهلل وجهه بالفرح والسرور ، ووصلت وثيقة إطلاق سراحنا ، ونصها:
تقية بنت يحيى حميد الدين ، وبناتها أمة المغيث و وداد ونبيلة وأمة العزيز
السيد ضابط بستان الخير.. يكون تسليم السيد إسماعيل غمضان المذكورات ، وهن تقية وبناتها وهن أمة المغيث ، ووداد ونبيلة وأمة العزيز ، الجملة خمس حسب الأمر من السيد وزير الداخلية ، عطفا عن أمر رئيس الجمهورية ، والمحال إلى إدارة المباحث العامة بإطلاق سراح المذكورات. ملاحظة: الأمر محفوظ لدينا . الختم والتوقيع
تطلّب أمر إطلاقنا إذن، موافقة رئيس الجمهورية عبد الله السلال ، فعلاج مريضة أصبحت حركتها صعبة وآلامها مبرحة احتاج كل هذه التدخلات ، ثم إلى وزارة الداخلية وإلى المباحث العامة ، كما حُذِّر ضابط بستان الخير من تجاوز العدد ، الجملة خمس ، والأمر محفوظ لديهم .
والمهم قد حانت ساعة الفرج ، وبدأنا نعد أنفسنا للرحيل ، ووصل خالي إسماعيل بسيارتين ، وتعمدت أن أجلس في السيارة التي ركبها خالي وقلت له : مستحيل أدخل بيتك.
عندها وجم خالي من هول المفاجأة.
قلت له أنت تعرف الكفالة والتعهد التي التزمت بهما ، وأخشى أن يقع ما لا يحمد عقباه ، وهم الآن يتربصون أي فعل يصدر منا أو منك ، وبين القبول والرفض ، رضي أن نستقر في بيت ابنته .
أطلق سراحنا من معتقل بستان الخير ، ولا وثائق لدينا ، لا جوازات سفر ولا بطاقات شخصية ، ولا حتى ورقة رسمية ، وسفرنا يقتضي جوازات سفر وبطاقات ( تذاكر سفر ) ، وبدأ خالي يجري من دائرة إلى دائرة ، ومن مسؤول إلى مسؤول ، يريد جوازات سفر حتى نستطيع الرحيل ، وتمضي الأيام ، أسبوع ثم أسبوعان ولا بارقة أمل ، وزاد قلقي. قلت لهم : لعلهم تراجعوا عن إطلاق سراحنا ، فتجاربنا معهم مريرة ، أما خالي ففي كل يوم يختلق عذرا يهون علي ، ففي اليوم التالي يقول إن شاء الله ستحل الأمور وستفرج بإذن الله.
وذات يوم ناديت خالي ، وقلت له بكل الصراحة والجد ماذا يجري؟ أريد أن أعرف الآن ، وإلا فإني عائدة وبناتي إلى معتقل بستان الخير.
عندها نطق خالي وقال : لم يوافقوا على إعطاء أي فرد من آل حميد الدين ، ومن يمت لهم بصلة جوازات سفر يمنية بأي حال من الأحوال .
وصدمت صدمة عنيفة ، ودار في فكري خاطران:
أولهما: خوفي على خالي إسماعيل فهو دائم الرعاية لنا ووقع تعهدا وكفالة بيومين لا أكثر ولا أقل ، وقد ضى علينا أسبوعان.
وثانيهما : لماذا يجردوننا من جوازات بلدي اليمن ، هل يريدون اعتبارنا لسنا من أهل اليمن؟ يعيبون على والدي الإمام يحيى ، وعلى أخي الإمام أحمد أنهم كانوا يدققون جوازات كل أجنبي قادم إلى اليمن ويفرضون قيودا على سفر بعض المشبوهين ، ولكن ماصدر يوما من والدي ولا من أخي حرمان أحد من جواز سفره اليمني ، ولو تجاوزنا ذلك ، فإن هؤلاء الجدد وبكل صلافة أصدروا قرارات بحرماننا من بلدنا ، وما سمعت بذلك في العالم أجمع إلا منهم ، أصولنا ضاربة جذورها في أعماق تراب اليمن منذ آلاف السنين ، ولكن كيف نتدبر الأمر؟
أمسكت قلمي ، وكتبت رسالة إلى الشيخ صالح بن ناجي الرويشان ، أطلب إليه العمل على عودتنا إلى المعتقل ودون أن يعرف خالي . فلما عرف عاتبني ، لماذا فعلت هذا يا تقية؟ الفرج قريب بإذن الله ، وأجبته : أن اضطراري للسفر لم يصل لدرجة أن أضحي بك فينالك الضرر بسببي ، والكفالة والتعهد سيفان مسلطان على رقابنا جميعا ، فوعدني ببذلل الجهد والتعاون مع الشيخ المذكور رحمه الله. وبالفعل ؛ فقد أرسلوا لنا بطاقات سفر فقط بعد ثلاثة أسابيع.
وفي آخر ليلة اجتمع الأقارب والأصدقاء لوداعنا ، وتوسمت من الجميع المشاركة الفعالة في اجتياز المحنة .
قال خالي : أرى أن نسافر بالسيارات إلى تعز ، ومن تعز يكون السفر إلى أثيوبيا بالطيران الأثيوبي ، وعلينا انتظار قدوم الطيران ، ولهذا ننزل في يريم في بيت القاضي عبد الوهاب الزبيري ، وقد سافر القاضي عبد الوهاب بالفعل ، ليكون في استقبالنا وتجهيز المنزل الذي سنقيم فيه ، وكان القاضي عبد الوهاب الزبيري من كبار التجار المعدودين في اليمن ، وهو صديق حميم لخالي إسماعيل.
فكان جوابي : مستحيل أن ننزل ضيوفا عند القاضي عبد الوهاب الزبيري ولا غيره ، لا أقبل أن ألحق أي مشقة أو ضرر لا بك ولا بصديقك فأنت تعلم أن عيونهم كثيرون ، وهم يحاولون إيجاد أي سبب لمنع سفرنا ، وأمام إصراري واصلت سيارتنا طريقها إلى تعز ونزلنا في فندق الأخوة في تعز، بانتظار الطائرة الأثيوبية.
كانت بناتي قد ارتحن، وبدت حالة الانبساط والسرور ظاهرة على وجوههن ، حتى أنا ، وإن كنت أتحسب لمواقف مفاجئة ، فقد أبديت نوعا من الانشراح وهدوء الأعصاب.
في الصباح ، حضر موظف من دائرة البرق ، وانتحى بخالي جانبا ، وأبلغه بوصول برقية إليه مرسلة من صنعاء ، وذهب خالي إلى دائرة البرق يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، وما هي إلا ساعة زمنية ، وعاد إلينا ووجهه مصفرّا ، مرتبكا ، كان مشوش التفكير ، تظهر منه حركات عصبية.
قال : هيا نعود إلى صنعاء.
حدثتني نفسي بالتمنع ، وعدم العودة إلى صنعاء ، ولكن اكفهرار وجهه ، وعصبية حركاته ، أكدت لي أن خالي يكتم شيئا عظيما، وكاد قلبي ينفطر للحالة التي وصل إليها هذا الخال العظيم ، مثال التضحية والشهامة.
قلت : يالله بنا ، أما بناتي فأمطرنني بسيل من الأسئلة. يماه .. هل سنعود إلى المعتقل أم إلى بيت خالكم؟ واحترت بما أجيب ، فلا جواب عندي.
حين سافرنا من صنعاء خصصت سيارة لخالي وأنا واثنتين من بناتي. والسيارة الثانية ركبها محمد ابن خالي وابنتي الكبيرة وأختها والمساعدة ، وعندما خرجنا من فندق الأخوة أسرعت إلى السيارة التي فيها ابن خالي محمد لكي أعرف حقيقة ما جرى ، مادام خالي ظل كاتما لما يحدث ومن حسن الأدب إلا ألح في سؤاله وانطلقنا عائدين إلى صنعاء ، وبعد دقائق سألت ابن خالي محمد ماذا حدث ؟ لماذا نعود إلى صنعاء؟
قال: وصلت برقية من أخي أحمد ، ففي الليلة الماضية خُطف أخي عبد الرحمن غمضان ، ولا نعلم مصيره حتى الآن ، ويبدو أن ما جرى هو بسبب السفر ، والمسافرين معكم .
وفي أثناء السير توقفنا ، وقلت لخالي : لن ندخل صنعاء نحن وأنتم ، بل يواصل محمد السفر إلى صنعاء ، ونحن جميعا ننزل في بيت القاضي عبد الوهاب الزبيري الذي رفضنا تلبية دعوته بالأمس ، فحبذ خالي الفكرة.
وفعلا نزلنا في يريم في منزل القاضي عبد الوهاب ، وواصل ابن خالي محمد سفره إلى صنعاء. وفي منزل القاضي عبد الوهاب الزبيري ,تسامع الناس بضيافتنا لمنزله ، فجاؤوا للسلام علينا من كل حدب وصوب ، وغص المكان بالمرحبين ، أناس يندر وجودهم في زمن تمرد فيه اللئام ، لقد بالغوا في إكرامنا وضيافتنا ، وفي خضم هذا الترحيب والتكريم ، غطتني حالة غريبة من الحزن. رحمة الله واسعة .. وأكملنا يومنا في منزل القاضي عبد الوهاب الزبيري ، وبعد صلاة العشاء ناداني خالي ، يبشرني ، وذهبت معه إلى الصالون ، لأجد خالي أحمد الذي بعث البرقية ، ومحمد ابن خالي وعبد الرحمن الذي اختطف ، واستبشرنا والحمد لله.
حادثة الاختطاف
ابن خالي عبد الرحمن كان تاجرا نشطا ، وله منافسوه من التجار يحسدونه ، فاختلقوا وشاية أوصلوها إلى عبد الله السلال ، ثم ذهبوا إلى السلال وهم في 17 سيارة.
قالوا للسلال : نريد ابن غمضان.
فقال لهم السلال: لا أعلم بشيء مما حصل.
وبعد التحريات والبحث تبين كذب ما افتروه، ولم يصل محمد ابن خالي إلى صنعاء إلا وكان عبد الرحمن قد عاد بالسلامة من أيدي الخاطفين ، فبادروا جميعا بالوصول إلينا ، وحمدنا الله كثيرا.
ولما كان موعد إقلاع الطائرة الأثيوبية في نفس اليوم ، وقد غادرت ، فتوجب علينا العودة إلى صنعاء ولمدة يومين ـ ثم سافرنا على متن طائرة يمنية إلى أسمرا ، وكان الأخ عبد الله غمضان قد سبقنا إلى أسمرا لأجل تهيئة سكن لإقامتنا. ووصلنا إلى أسمرا ، وأدخلونا صالة كبار المسافرين ، قال خالي : اقر}وا سورة "ياسين" وارتاحوا ، وقدَّموا لنا عصيرا ، وأكملنا قراءة السورة ومضت ساعة ونصف ونحن في الصالة ، لا ندري ما يجري ، وخالي لا يقول شيئا ، وهذا سمته ، دائما يكتم المزعج من الأخبار في صدره ، يتحاشى رحمه الله أن يزعجنا أو يثير القلق في نفوسنا ، ويحافظ على مشاعرنا هادئة ، وطال الانتظار ، وسألت خالي بإلحاح : لماذا كل هذا الانتظار؟ ماذا يجري؟.
وكان جوابه : خرجتم من اليمن بدون جوازات سفر ، فقد رفضوا بشكل قاطع إصدار الجوازات لكم ، والسلطات الأثيوبية تريد الجوازات لتسهيل الخروج ، ولكن لا تقلقي ، فقد رتبت الأمور ، وأجريت الاتصالات اللازمة ، وكانت لي مكالمة تليفونية مع ولدي عبد الله ، والجوازات ستصل قريبا.
وماهي إلا هنيهة إلا ورأينا الأخ عبد الله وعلي باناجه يلوحون لنا بالجوازات من وراء السياج ، فقد بعث أولاد أخوتي بالجوازات من السعودية إلى أسمرا ، وأوصل الجوازات عامل حريب ، رحمه الله ، وغادرنا صالة المطار واستقبلنا عدد من الأهل والأصدقاء ، وحينها تنفست الصعداء ، وشعرت بارتخاء أعصابي ، وهدأت نفسي.
أمضينا في أسمرة أسبوعا ، ونمت أول ليلة نوما عميقا ، فمنذ أكثر من ثلاثة سنوات وبضعة شهور ما تنسمت عطر الحرية ، وتخلصت من القيود والمظالم إلا في تلك الليلة . ومن أسمرا كان سفرنا إلى جدة حيث لقيت زوجي رحمه الله ، ثم إلى الطائف لأطمئن على ابنتي رجاء ، وفي الطائف كانت عائلة زوجي وابنتي وحفيدي خالد وولدنا محمد ، وأخيرا التم شمل عائلتنا الصغيرة .
لعلّي في هذا المقام أوجه شكري وتقديري وعظيم ثنائي إلى ملك المملكة العربية السعودية ، والأمراء والشعب السعودي لما أحاطونا به من كرم ورعاية ومساندة ، وستظل أعناقنا مطوقة بجميل ماقدموه لنا أبد الدهر ، فنحن وهم توأمان عبر الزمن.
أقمت في الطائف أياما وسافرت إلى لندن للعلاج برفقة أعزاء على نفسي وقلبي ، والأولاد يدرسون في معاهد بيروت ، وابنتي الكبيرة نزلت من عندنا إلى من بالطائف مع ولدها خالد للإقامة عند أعمامها ، وفي نفس العام تزوجت بالشاب التقي علي الشامي ، وعدت من لندن بعد الشفاء لأنشغل بشؤون الأولاد والأسرة .
فقد جاء من يقول لزوجي أن الدراسة في معاهد بيروت لا خير فيها ، فكل برامجهم على الأغلب تهتم بالتاريخ الفينيقي ، فأرسلنا في طلب الأولاد ليدرسوا في الطائف ، وكانت مدارس الطائف حتى ذلك الوقت كغيرها من مدارس المنطقة ، لا تعتني بتدريس اللغات الأجنبية ، وداوم الأولاد على الدراسة في مدارس الطائف ، أما البنات فيدرسن في البيت .
ذات يوم جاءني ابني عبد الله وخاطبني ، أكاد أنسى ما تعلمته من اللغة الإنجليزية وأتمنى أن أعود إلى لبنان ، خامرني إحساس مرير ، فنحن المسؤولون عن عدم إتاحة الفرصة لأبنائنا للدراسة في أفضل المعاهد ، وصممنا على السفر إلى لبنان ، حتى يكون أولادنا تحت إشرافنا المباشر ، وبالفعل التحقوا في مدارس المقاصد الإسلامية.
ثم كان زفاف ابنتي أمة المغيث في منزل الوالد ، الحسن بن الحسن ، وسافرت مع زوجها أحمد بن الحسن إلى أميركا .
كنا في بيروت حوالي أربعين عائلة ، وعشنا في بيروت حياة ممتعة ، لقينا فيها المعاملة اللطيفة ، حتى في الدوائر الرسمية كانوا يسرعون في كل ما نطلب ، وكان لنا الأسبقية ، ونفس المعاملة الرائعة لقيناها عند الأطباء ، وكافة الخدمات كانت سهلة ميسرة .
ما كان يدعو لسعادتنا في لبنان تلك الصورة الحسنة التي رسمها كل من أقام من آل حميد الدين في لبنان عند الأخوة اللبنانيين . فالأولاد في المدارس عرفوا بالجد والاجتهاد ، وفوق هذا وذاك الدين والأخلاق ، ومعاملة رجالنا كانت صادقة وكريمة وبشوشة مع كافة جيراننا ، نصون حرمة الجار ، ونهبُّ لمساعدته ، ولا يسمعون منا إلا ما حسن من الكلام ولطيفه ، كنا حريصين على ترسيخ صفة الصلاح والتقوى .
والعلم أن لم تكتنفه فضائل *** تعليه كان مطيّة الإخفاق
كلنا قد أخذنا الصلاح والتقوى منهجا وطريقا في الحياة ، فلم تبدر شائنة ولا عيب من أي واحد منا ، ترسخت لدى جميعنا مفاهيم الحياة الدينية والعقلية ، كأن الأحداث صقلت الجميع ، فما كانوا يحفلون بالتلفاز والأغاني ولا المتعة وأمثالها.
ولما كان أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض ، وهم أمانة في أعناقنا ، وواجبنا أن نربيهم التربية الجادة المثالية ، فقد حرصنا على ذلك في اغترابنا . والاغتراب في طلب العلم له فوائده ، ينمي الشخصية ويصقل النفس ، ويهذب الطبائع ، ويوجد الإبداع ، أن كان هو المقصد دون غيره .
وطارت العصافير من أعشاشها ، وبدأ الافتراق المحبوب ، وثارت الأشواق من جديد ، ولكنها سنة الله في خلقه .
في بيروت احتفلنا بزواج ابنتي نبيلة على الولد الحسين بن يحيى الحسن ، وكما قلت لكم فإن أفراحي لا تدوم ، فقد اشتعلت أحداث الحرب الأهلية في بيروت حماها الله سنة 1975م ، وكنا نسمع طلقات المدافع والقذائف الصاروخية والبنادق الآلية ، ونحذر ونحتاط ، ننزل في الطوابق السفلية تارة ، وعلى النوافذ تارة أخرى ، ونتدبر طعامنا وشرابنا وحاجاتنا ، فأرسلت ولدي عبد الله وأخاه حسين إلى لندن ، عند والدهم ، وولدي إبراهيم إلى أميركا طرف أخته لمواصلة دراسته ، أما أنا فارتحلت إلى المملكة العربية السعودية ، تفرق الجمع ولكن برضانا محفوفين بعين الله ورعايته .
أمضيت في المملكة العربية السعودية عاما ، سافرت بعدها ومن تبقى من بناتي إلى برملي ، وعشنا مع زوجي . وشعرت بطعم السعادة ولكن هيهات ، ففي أثناء إقامتي في لندن نُعِي إليّ خالي الفاضل الجواد الكريم إسماعيل غمضان ، رحمه الله ، وهات يا حزن ، بكيته بكاء لا أستطيع وصفه ، مر شريط ذكرياتي متوجعا على هذا الخال الذي لن يجود الزمان بمثله عليّ ، مواقفه ، خدماته ، محاولاته للتخفيف عنا ، شهامته ، وبكيته .. وقد شاركني أحزاني على خالي الكثير من أبناء أسرتي ، أخي عبد الرحمن ، حفظه الله ، وابن أخي البدر الإمام ، رحمه الله ، أنا لله وأنا إليه راجعون .
وطال مكثنا في لندن ، فقد تحسنت صحة زوجي ، وبناتي يدرسن ، وكان ولدنا عبد الله يواصل تخصصه في جامعة البترول والمعادن في الظهران ، وهي واحدة من أرقى جامعات المملكة العربية السعودية ، ثم سافر ولدي عبد الله إلى اليمن وخطب ابنة أحد الأقارب ، واحتفل به عمه والد العروسة السيد أحمد الخزان وبنو عمومته ، وها نحن دخلنا سنة 1401 هـ / 1980م.
من ذكرياتي في لندن
وصل إلى لندن زائرا العالم الأديب أحمد الشامي ، ويوم وصوله نزل ثلج كثيف ، غطى المنازل والأشجار ، وكان منظرا رائعا ، فاللون الأبيض حط بجلاله على كل شيء أمامه ، وبدت كعروس ببدلتها البيضاء ليلة زفافها ، وحبات الثلج تتراقص فوق أغصان الشجر ، فأوحت العبقرية الشعرية لأديب من آل شرف الدين بهذه الأبيات ، قالها وهو يشرب قهوة الصباح ، فارتجل :
ما(لكنت) القصور ماللحديقة *** ما كساها بيض الثياب الرقيقة
ما لها أشرقت بدون شموس *** مثل إشراقة المنى بالحقيقة
ما لأشجارها الكبار تحلت *** من جمان ويا لآلي وريقة
آه يا(كنت) كم أسرت حبيبا *** كم طويت من الشجون السحيقة
أنت ذا اليوم درة غير أني *** سوف أطويك في البحار العميقة
في فؤادي لكي أخلد فيه *** ذكريات اللقا دقيقة دقيقة
إنها فرصة الحياة وحسبي *** أنني قد كتبت أغلى وثيقة
فلما عرضها عليّ زوجي تمنيت أن أعارضها ، وقد قيل مع كثرة الأدباء في اليمن : فما كل مصقول الحديد يماني ، وما معارضتي إلا محاولة ،
فقلت :
إنما كنت للغريب ملاذا *** من صروف كما علمتم سحيقة
ثم ما بالكم بنا هل تظنوا *** أن فينا من لم يغص بريقه
يرقص الثلج في الغصون فلا ند *** رك إلا ما ينمحي من بريقه
وإذا أشرق الفؤاد بلحن *** من شدو الحمام أو تصفيقه
حجبتنا عن الوجود غيوم *** حيث لا يعرف الصديق صديقه
غير أنا من الدواهي أمضى *** من هصور في القفر ضل طريقه
ما لقلبي وللأماني وقلبي *** دمية الدهر والسهاد رفيقه
والليالي من المآسي حبالى *** والدواهي بكل وادٍ محيقة
ما الثريا وما الشواطي وماذا *** سوث اند ما أكسفورد العريقة
فأنا اليوم في سجون شجوني *** وشجوني في قعر بئر عميقة
ما لصوتي صدى ولا لشكائي *** راحم أن شكوت نار عقوقه
أين مني عزيزتي وهي بنتي *** وهي في كل حالة لي شقيقة
وهي اليوم في الحجاز ونفسي *** لتلظى النوى بأعلى شهيقة
ونأى في نيو جرسي حبيب *** بأميركا وأين مني عبيقه
وبظهران شمس قلبي توارت *** وهي عندي أغلى الكنوز العتيقة
أنا لولا وداد خير مثال *** ورجائي من للرشاد خليقة
واعتصامي بخالقي ثم إبني *** عبده والخليل نهج الطريقة
وبأفلاذ مهجتي كل نجم *** وثريا على فؤادي شفيقة
من حفيد وسيط الكل عندي *** كحياتي كروحها في الحقيقة
هذا ما لا أسميه شعرا ، ولكنها حكايات ، وكل يأتيك بقدر فهمه
إنما هو حنين إلى الوطن وشوق إلى ترابه ، فالنفس إلى مولدها مشتاقة ، وإلى مسقط رأسها تواقة ، وفطرتي معجونة بحب الوطن ، أتروح بنسيم أرضي. قالوا : أكرم الإبل أشدها حنينا إلى أوطانها .
وصدق الله العظيم {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم} سورة النساء الآية 61
خاتمة المطاف
سافرنا إلى أميركا لزيارة أخي المولى الحسن رحمه الله ، وكنت أنا وزوجي وابنتينا ، وكان زفاف ابنتي رجاء على الولد علي زبارة في أميركا عام 1973م ، ثم سافرنا إلى المملكة العربية السعودية ، واحتفلنا بزفاف ابني إبراهيم على ابنة المرحوم السيد حسين الكبسي عام 1984م ، ثم كان زواج أحفادي عبد الوهاب وخالد بصنعاء عام 1984م ، وزفاف ابنتي وداد على الولد عبد الملك حميد الدين بجدة عام 1985م.
هذه حكايتي ، وتلك قبسات من ذاكرتي ، فتقية بنت الإمام يحيى حميد الدين تكتب عما لاقته وعانته ، وما تركته الأحداث من الآلام ، وحتى لا نكون جاحدين ، فقد أغدق ربي نعماءه علينا وعوضنا عما أصابنا ، لقد وهبنا الله فوق أمانينا ، وقد تناسيت ما كان ، فلا أحمل حقدا على أحد ، ولا أدفن ضغينة في قلبي ، فسامح الله الجميع ، لقد امتصت الذاكرة كل أحزاننا فلا رواسب ولا آثار .
وفي الختام ؛ أدعو الله من كل قلبي أن يصلح أمور جميع المسلمين ، وأن يتولانا بالحسنى ، ويزيننا بالتقوى ، أسأل الله الأمن والسلام والاستقرار لكل بلاد المسلمين ، وأن يحفظ الله البلد الأمين ، ويحمي كعبته المشرفة ، وملكه وأمراءه وعلماءه وشعبه الوفي ، ودعائي أن يحفظ الله وطني اليمن ويظل سعيدا بعلمائه وفقهائه وشيوخه.
اللهم لا حقد ولا ضغينة .
اللهم اغفر لي ولكم ، وللعموم من أسلاف وأخلاف .
اللهم اجمعنا بأسلافنا الشهداء وبرجالنا الذين قضوا في سبيل الله .
وأن آخر دعواي ، أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على سيدنا وحبيبنا محمد وآله الطاهرين . وليرحمنا الله وإياكم .
انتهى كتاب يتيمة الأحزان من حوادث الدهر والزمان..
قام بجمعه د. مختار محرم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق